التكعيبية في العمارة المحلية والحس الهندسي ..
في مراجعة تاريخ الإعمار الكولونيالي الإيطالي لطرابلس المستعمرة الحديثة، والجدل حول التيارات الفكرية المعمارية آنذاك وما خلصت إليه هذه المحاولات في الإتفاق على مسمى ‘العمارة المتوسطية’ كأسلوب لتعمير المستعمرات، وهو في الواقع كما وجدته فيتوريا كابريزي[1] وميا فوللر[2] في أن ‘المتوسطية’ هو تعبير توافقي يجمع بين بساطة العمارة المحلية في ليبيا والتي أطلق عليها ‘التكعيبية’ ومزيج معماري بنكهة إيطالية تجنبا للمخاطرة من تولد الشعور بالدونية في أن العمارة المحلية مصدر إلهام. ‘المتوسطية’ أيضا كان الاصطلاح المناسب اعتماده من السلطة الحاكمة في تقنين العمارة الكولونيالية المستمدة من روح العمارة المحلية.
إن الأمثلة التي جسدت ما تعارف عليه بأسلوب ‘العمارة المتوسطية في ليبيا’ عديدة، وهى أعمال اتسمت باقتباس مفردات وأسس تكوين العمارة الليبية التقليدية المحلية ‘التكعيبية البيضاء’. استندت جل هذه العمائر على مزيج مركب من الحجوم الهندسية الرئيسية، تم تجميعها بما يحقق تكوين متوازن بعضها يخضع لتوازن محوري بفعل التماثل كما هو الحال في عديد المراكز القروية التي يسيطر عليها حضور المبنى الديني، وأعمال معمارية أخرى اعتمدت في توازن حضورها على عوامل جمالية تحققت بفعل التضاد في سطوع الضوء على السطوح المصمتة والظلال العميقة للفتحات والممرات المظللة التي استمدت حضورها المؤثر من تكرار وحدة القوس والعمود.
على الرغم من حرص السلطات الإيطالية في إستثناء المباني الحكومية الرسمية من طابع ‘العمارة المتوسطية’ أو ‘التكعيبية البيضاء’ إلا أن عدد من الأعمال المعمارية لدوائر الدولة الرسمية بدا الأسلوب التكعيبي الأبيض حاضرا بمفرداته وبياض أسطحها وتضاد الضوء والظل في تكوينها. هذه الأعمال برز فيها المقياس اللاإنساني و التماثل كركيزة التوازن المحوري في الواجهات، كما برز تباينها في أعمال دي فاوسطو. التكوين الظاهري لمجمع فندق الودان أو المهاري والذي تأسس تكوين كل منهما على الأشكال الهندسية الأساسية التي تمتعت بها العمارة التكعيبية المحلية حيث الأبراج الإسطوانية والأسقف المخروطية والقباب مفردات تمت استعارتها وإعادة تجميعها في تكوين ذو ضوابط جمالية ولم تخضع لمحددي المقياس اللاإنساني أو التوازن المحوري اللذين نجدهما بارزين بمباني رسمية أخرى كما هو الحال في مبنى التأمين بميدان الجزائر على سبيل المثال لا الحصر.
إن تعدد الشواهد المعمارية الكولونيالية على أراضي ليبيا يتيح الخوض في عمليات بحث ودراسة وتحليل بما يؤكد اللجوء إلى رصيد التكعيبية الليبية البيضاء الساكنة بالعمائر المحلية التقليدية. إن مثل هذه الدراسات ستحمل في طيات نتائجها فرص اتساع الرؤية في إدراك المحاولة الإيطالية التي دأبت على الاجتهاد في تقديم أعمال تنشد الانتماء إلى المكان. إن الدرس المتأتي من ذلك هو الاجتهاد في المحاولة لإنتاج عمارة وطنية مسؤولة تتكامل فيها القيم الفراغية و الوظيفية والجمالية.
لم يكن الهدف من تحرير سلسلة ورشة العمل الدعوة إلى محاكاة التجربة الإيطالية كما هو الحال المعماري المنتشر حاليا في طرابلس ـ إن الغرض الأساسي من الحوار هو العمل على إدراك مسار مراحل تبلورها والسعي الواعي في محاولات التأمل والتدبر للرصيد المعماري التكعيبي المحلي، وتبادل وجهات النظر حول نتائجها خصوصا للشريحة من الوسط المعماري الليبي الذين يشتركون في الميول نحو التيارات التقليلية والتكعيبية أو المسمى بإعادة إحياء المحلية.
التكعيبية في العمارة المحلية و أسس التكوين
إن مراجعة المحاولة الإيطالية في سياق هذا العرض هو بمثابة محاولة الاسترشاد بمسار وناتج عمارة أجتهدت في الحفاظ على ثقافة وجنسية ونيات المعماري الكولونيالي في ليبيا، وتحت عنوان البحث في التكعيبية البيضاء في العمارة المحلية، ستكون المحاولة في عرض من شقين أولهما نموذج محاولة تحليلية لأسس تكوين عدد من الأمثلة المحلية التقليدية، والشق الثاني هو إستعراض عدد من المحاولات المعاصرة لتقديم عمارة مؤسسة على أرضية التكعيبية البيضاء الليبية.
إن النماذج المعروضة لعمارة مساجد محلية كأمثلة أجريت عليها محاولة تحليلية لأسس تكوينها فكانت النتائج اشتراكها في الحس التكعيبي هندسيا ومبدأ الحذف والإضافة في عناصر التكوين. إن إضافة القباب أو الأقواس أو حتى المآذن هي بمثابة تحوير في الشكل الإبتدائي (المكعب) ونقله إلى هيئة تشترك في الخصائص الهندسية كحجوم أو أشكال هندسية إبتدائية. إن فرص التحليل متأتية لكل الأمثلة المعمارية المحلية القائمة من بيوت ومساجد شيدت قبل ظهور المعماري الأكاديمي، وهي تجربة مفيدة ومهمة لكل من ينشد إدراك أسرار هذا المنهج التصميمي. فالخط المحلي التقليدي يتمتع بنقاء ووضوح وهيئة صريحة في تكوينه مما يتحقق معه ناتج الحذف والإضافة بشكل يسير وواثق . إن التنظيم الفراغي وترتيبه وتدرجه ومقياسه في معظم هذه المباني قد تكامل بشكل عضوي وتكوين .المبنى المرئي مما كثيرا ما يفلح في ترسيخ صدى مشاعري في نفس الزائر والمستخدم
تباين ناتج المحاولة التكعيبية في العمارة الليبية المعاصرة فالبعض أخذ منحى التقليد في الهيئة دون إدراك إسقاط ذلك فراغيا، والبعض الأخر تمادى في استعارة تفاصيل ظاهرية غاب معها بساطة ونقاء امتداد السطح الخارجي مما يضع ناتج المحاولة ضمن خانة العمارة المزيفة. إلا أنه كان قد برزت عديد المحاولات التي اجتهدت في محاولة تحقيق التوافق التكعيبي الهندسي للكتل والقيمة الفراغية له، ويجب أن لا نغفل عن تأكيد حضور المحاولات الشبابية الليبية أيضا في تبنيها للتيار التكعيبي البسيط (التقليلي)، وهو الدافع الحقيقي وراء كتابة هذه الأجزاء في محاولة تشجيع هذه العناصر للالتئام ،واللقاء للحوار والاجتهاد في البحث المشترك..
ان الدعوة المفتوحة للوسط المعماري الشبابي الليبي، الذي تشترك ميوله الفكرية المعمارية وطرح هذه الورشة، في المشاركة بالنقاش وتبادل الرؤى، وحتى يحين موعد رعاية هذا النشاط المعرفي ضمن ورشة عمل معمارية، أرجو أن نجد الفائدة فيما طرح، شاكرا لكم المرور الكريم والإطلاع على فكرة هذه الورشة وملخصها في أربعة أجزاء…
[1] Vittoria Capresi, The reinterpretation of Libyan Vernacular Architecture as the Answer to how to Build in the Colony’, Regionalism, Nationalism & Modern Architecture Conference Proceedings. Porto, October 25-27, 2018
[2] ‘Mediterraneity’: See Fuller, M. (2008). Mediterraneanism. French and Italian Architects’ designs in 1930s North African Cities. In S.K. Jayyusi (Ed.), The City in the Islamic World, Vol 2, Boston: Brill (pp.978-992).