جدل …!

هل للعمارة أن تكون وسيط الحوار بين الأفكار؟ أو أن تكون الحدث المكتفي ذاتيا؟

لأن العمارة لبنة الحضور الحضري، يمكن لها أن تكون حاضرة في الحالتين، فهي وسيط مستقل للحوار وحدث مكتفي ذاتيا في آن واحد. أسوق هذه المقدمة لموضوع شائك نسبيا محوره جدل قائم بين القبول بالتيارات المعمارية المعاصرة أو رفضها والانحياز لمحاكاة المعمار التقليدي. كان أن تبنت عدد من اللقاءات والندوات عنوان ‘الأصالة والمعاصرة’ والتي كثيرا ما تنتهي بانفصام الرأي بشأن الجدلية في الوسط المعماري العربي عموما والبيئة المعمارية الليبية بشكل أكثر خصوصية.

Louis Hellman ‘Architecture A-Z’

بات التنوع التعبيري المعماري ملحوظا بشكل متسارع في العقد الأخير، لاسيما على صفحات التواصل الاجتماعي أسوة بما يحدث في أرجاء المعمورة والتي قاربت أن تمسي صفحات التواصل المعماري. هذا التنوع له شأنه الإستثنائي في بلادنا, فكثيرا ما تطالعنا لوحات لأعمال وليدة إظهار معماري باستخدام الكمبيوتر لم تمنح الفرصة للتعبير عن الآراء الموضوعية بشأنها لعدم توافر مفاتيح العمل المعماري كاملة، إلا أن هذا ليس بالموضوع الذي نحن بصدد مناقشته. فلقد طال العرض لأعمال التصميم (خصوصا المذيلة بتوقيعات الوسط المعماري الشبابي)، تباين في طرحها، وذلك ضمن مجال الفارق التعبيري بين الصيغ التعبيرية المستمدة من محاكاة أو استعارة المفردات المعمارية المحلية التقليدية، وبين الصيغ المجتهدة في تبني الصيغ التعبيرية المعاصرة.

قرية غنيمة السياحية – ليبيا

إن المتتبع للتيارات المعمارية المعاصرة، على مدى الثلاث العقود الماضية، في الدول الرائدة في أطروحاته الفكرية المعمارية، سيتجلى بوضوح كاف أن السؤال عن ماهية العمارة المعاصرة هو سؤال مركب ومبهم ولن يجد سوى إجابات وتفسيرات تتسم بالغموض ليقع رهينة الارتباك والحيرة. إن التيارات المعمارية المعاصرة دوليا مدفوعة بالحقائق المرئية لها وما يظهر عليها من تنوع واختلاف وتباين وتطرف وغربة. فهي منتج رهين بالمتغيرات المتسارعة دراماتيكيا، تقود مسار توجهه أسلوبية تتسم بالتفرد و التضاد والتنافر فيما بينها في الطرح والإدراك!

القول بتعذر تعيين إجابة جامعة ما لهذه التيارات حتما لا يلغي موضوعية طرح السؤال بل أن ذلك يضفي على السؤال ملائمة توقيته حيث بلغ صداه بلادنا ليمتد حضوره في تعدد محاولات البعض منها تنشد التسويق وأخرى الإعجاب دون الإكتراث بأهمية المحتوى وعمق الطرح الفكري لها. وتجدر الإشارة هنا أهمية الوقوف على ملامح وخطوط الفكر المعماري المعاصر والذي يمكن تعيينه زمنيا بإعلان ولادة ‘عمارة ما بعد الحداثة’ في سبعينيات القرن الماضي، فالتحور الذي يطرأ على الفعل المعماري هو نتاج صدى التاريخ المعماري ومحطاته المؤثرة حيث يشكل ذلك محاور تبلور المسار الفكري المتباين والمنعكس على الأعمال التي ترتقي إلى مستوى مواضيع الفكر النقدي المعماري والتصنيف التاريخي لها.

ففي استعراض نماذج للمحطات المعمارية اتي أتفق عليها كأمثلة لكل منهج فكري معماري،سيتسنى لنا الوقوف على التيارات التي شكل نتاجها حضورا مؤثرا. فالمتتبع لنتاج الحداثة المتأخرة وما بعد الحداثة والخط التعبيري الذي عرف تحت عنوان ‘التفكيكية’، الذي تخلى عنه عدد من رواده بعد التكتل الذي برز في عدد من اللقاءات والحوارات النخبوية تحاول جاهدة الدعوة لقبول فكر معماري مغاير! لم يتبع ذلك سوى تشتت في الإتجاهات، ولم تتبلور اي من المحاولات عن تشكل مادة مؤهلة للتحليل بإستثناء تيار عقلاني وجد في الخط التقني للحداثة أرضية صلبة. فاللتقنية دورا بارزا في التحول الذي دفع بالحداثة إلى أن تتبوأ حضورها الدولي لعقود. هذا التيار تعددت مسمياته إلا أنه أرتبط بتقديم التقنية والإستدامة كمحوري مداخل التصميم المعماري المعاصر والذي توهجت معه الحماسة في تقديم نظم وتقنيات التنفيذ التي حفزت على إبتكار مواد تنفيذ جديدة لتسهم جميعها في القبول بحراك فكري معماري له رواده المعاصرين وإرتباك من تبنى صداه في مجتمعاتنا التي لا تملك سوى النذر اليسير من صناعة البناء وتقاناتها.

من مفاصل الجدل الدائر في بلادنا تحت عنوان ‘الأصالة والمعاصرة’، حول الإنحياز نحو تبني التوجه نحو الموروث المعماري المحلي وإقتباس تكويناته ومفرداته وملائمتها للحياة المعاصرة ويجوز في ذلك توظيف نظم وتقانات ومواد التنفيذ شريطة أن لا يكون حضور أي منه ظاهرا بما يمكن له أن يخل بالتعبير الجمالي ‘الأصيل’ المنشود. من جانب أخر ينحاز فريق المعاصرة تقنيا وتعبيريا إلى عدم اللجوء إلى الموروث في نقله بل الإكتفاء بإدراك رسالته. فالتحرر من القيود التي فرضتها محدودية التقنية التنفيذية بالعمارة المحلية سبيل للتوافق وتيارات العالم ‘الصغير’ في إتجاهات التعبير المعماري.

هذا المفصل بات بالإمكان حسمه بمجرد الإتفاق على أن التقنية في نظم وتقانات التنفيذ ومواد البناء قاسم مشترك ساد كافة الأساليب والطرز المعمارية عبر تاريخ الإنسانية على البسيطة، وهو دفة التعبير لكل التيارات الفكرية في العمارة، ولن يضير ذلك الناتج تعبيريا في عمارة بلادنا لإستقرار التقنية في الهياكل الخرسانية لعقود طويلة بعد البناء بنظم الحوائط الحاملة الحجرية والطينية، وغياب مناخ صناعة البناء المؤهل لأي إبتكار تقني متقدم في نظم ومواد وأدوات التنفيذ.

هذا القصور التقني المحلي في صناعة البناء دفع بخطوط التصميم المعماري في بلادنا إلى تبنى مبدأ الانتقائية التعبيرية من العمارة المحلية ومحاكاة بعض الصيغ المعاصرة ومؤخرا بدأت ظاهرة إعادة إحياء عمارة حقبة الإستعمار الإيطالي بتعدد تياراتها التعبيرية!  هذه الحقبة التي وجدت في المدن الليبية نوافذ عرض للفاشية، ومختبر لعمارة البحر الأبيض المتوسط الحداثية، وأرضية لصراع كان دائرا بين ‘كلاسيكية البحر الأبيض المتوسط ، و‘عقلانية البحر الأبيض المتوسط ، وفكر يدعي إختيار الحيادية والسعي للمحاولة في صياغة عمارة تتوافق  بيئيا والمكان، وتحمل في طياتها صدى التقاليد، الذي شكل نتاجه بما عرف بالمحلية الجديدة أو تجديد المحلية   .

تجددت في طرابلس مؤخرا مباني تعكس حالة تذبذب التيارات الإيطالية المستمرة منذ قرابة المائة عام بعضها يمكن أن نطلق عليه بدون تردد العمارة الفاشية الليبية الجديدة حيث كانت الإستعارة المباشرة في كل مبانيها ذات القوس ذي العلو الشاهق في الواجهات الرئيسية، وأخرى تجديد لكلاسيكيات المتوسط، وعدد يسعى إلى تجديد المحلية في نقاء سطوحها في مزيج بين التقليلية والتكعيبية الليبية! إلا أن جميعها لا تقف على أرضية صلبة لكونها رهينة التجاذب بين سلطة سوق العمل وتجاهل أثر المضمون الفكري للفعل المعماري من جهة وغياب الإطار التشريعي والقانوني للبناء وتأخر ولادة الحركة النقدية حتى تاريخ كتابة وجهة النظر هذه من جهة أخرى.

إن القبول بحضور المحدد التقني في جل الطرز المعمارية عبر الفترات التاريخية مرده أن البعد التقني التنفيذي كامن في العمل المعماري وحضوره التعبيري محدد ضمن الإطار التعبيري الجمالي للفراغات والأسطح. ساد هذا الحال إلى أن طغى التشتت التعبيري والفكري على الوسط المعماري الدولي، فبرزت التقنية كخط تعبيري يقود العمل المعماري تعبيريا ووظيفيا. في بلادنا علينا فعلا التسلح بالمعرفة وتأصيل أسس سليمة وصحية للتواصل المعرفي، فالوعي المعماري السليم هو سلاحنا اليتيم لمواجهة الجدل العقيم. ان الخط التعبيري خيار شخصي في الفعل المعماري، وعلينا تحمل مسؤولية اتخاذ قراره، ذات القرار الذي يحترم التاريخ والموروث والذي يفسح للمعاصرة مساحة وان يعي ان للتقنية حضورها …  قرار تتكامل فيه ثلاثية التاريخ والمعاصرة والتقنية .