محاولات قراءة النقد المعماري في ليبيا : (جلسة حوار في ضيافة الهيئة الليبية للعمارة)

في إستضافة كريمة من الهيئة الليبية للعمارة، كانت جلسة حوار شارك فيها نخبة من الوسط المعماري الليبي لمناقشة رافد حيوي للإرتقاء بالعمل المعماري في ليبيا، وساهمت وجهات النظر في تبلور رؤية مشتركة ستضع خطوات النقد المتعثرة على بداية درب موضوعي وجهته النقد المعماري الإحترافي. كانت بداية جلسة الحوار جملة محاولات قراءة واقع النقد تمهيدا للحوار:

ـ كانت عائشة إبنتي الصغيرة تجلس إلى جانبي في السيارة ونحن في طريقنا إلى المدرسة، وكانت تدندن بصوت منخفض مع أغنية على الراديو، وتدريجيا بدأ صوتها يعلو مع الأغنية فنظرت إليها وبادلتني النظرات قائلة ضاحكة: “هذه الأغنية مشهورة والجميع يحفظها”. إبتسمت في صمت ودار في ذهني مايلي: قد يكون دافع تعليقها أمران: أولهما برئ وهو حثي على عدم الإستغراب فالأمر شائع والجميع يحفظها، وثانيهما إتهام مبطن في أنني لست مواكبا كما ينبغي لعالم الموسيقى. ولكن كلا الأمرين أجدهما تكتيك دفاعي تحوطا لأي نية تحمل في طياتها (نقد) حتى وإن كانت مجرد نظرات.

إشارتي لهذا الموقف مبعثه الحاجة للتأكيد على أنني لست ناقدا كما لم أكن يوما كذلك. فهو أمر ليس بالهين وما المحاولة هنا في استعراض جوانب من واقع النقد المعماري في ليبيا، إجتهادا ينشد مشاركة فكرية من الحضور الكريم وقراءة جماعية متأنية للبحث عن فرص توافر مناخ النقد المعماري لسياق النشاط المعماري كدليل لرحلة تكون ثقافة معمارية عامة ناضجة ومسؤولة. إن جملة المحاولات التالية هي بمثابة ترتيب مكونات بيئة النقد المعمار، التي تنشد مشاركة الحضور في جلسة حوار اليوم. كما أن عدم الخوض في مناهج النقد ومدارسه وأساليبه يعود إلى كونه إختصاص الأكاديميا، فضلا على أنني لا أنشد درب شائك في هذه الجلسة الطيبة، فكان الإختيار أن يؤسس الحوار (الأول) وأرجو أن لا يكون الأخير على عناوين مرنة ومحفزة لتبادل الأراء.

 خمسة محاولات ومحاولة في قراءة النقد المعماري ترافقها رسومات ‘ساخرة’ تلخص واقع النقد، فالموضوع برمته له حيز من الحساسية في نفس المعماري ومرد ذلك أن ‘النقد’ رفيق رحلة تمتد من مقاعد العام الأول من تعليمنا المعماري وحتى يومنا هذا. هذا الرفيق أحيانا يبعث السرور في النفس وأحايين أخرى يوخزها في ألم، وحتما وجع الأخير يفسركراهيتنا له. لقد تعارفنا على أن النقد رافد قيم للإرتقاء بالنشاط الفكري وهو ما نتفق عليه في الحقل الأدبي والفني التشكيلي حيث أرسى قواعده إعتمادا على معايير التحليل المنهجي للمدارس المختلفة، فأكسب النقد حيادا وقبولا أسهمت في نتائج إيجابية. لكن مالذي يحدث في عالم العمارة في بلادنا؟ وهل يملك النقد المعماري دورا في الإرتقاء بالنشاط المهني ورعاية مساراته؟

  • المحاولة الأولى   : مراجعة النقد في مدارس العمارة
  • المحاولة الثانية   : مناقشة أثر التيارات النقدية المعمارية الدولية.
  • المحاولة الثالثة   : قراءة واقع مسار النقد المعماري في بلادنا.
  • المحاولة الرابعة : فرص تكون مناخ نقد معماري محلي.
  • المحاولة الخامسة: من يملك أن يكون ناقدا للعمارة؟

 ١

في المحاولة الأولى: مراجعة النقد في التعليم المعماري:

 إنه من ضمن المفاهيم الأساسية التي نتلقاها ونحن بمقاعد الدراسة بأقسام العمارة، أن النقد أداة يمتلك زمام أمرها معلم العمارة وهي( أي أداة النقد) وسيط النجاح حتى أنه طيلة سنوات تلقي المعرفة المعمارية يصبح الطالب رهينة الترقب في الحصول على ما بذله من مجهود (فكري وعضلي) القبول أو الرفض، وبالتقادم يصبح الطالب نفسه مصدر توجيه (الناقد) لمن هم دونه من المراحل الدراسية لينتهج ذات السلوك (دون إرادة) في الحياة العملية.

٢

 فالطالب في مقاعد الدراسة يتلقى من معلمه منهجا نقديا أو (إنتقاديا) بالأصح يستند إلى تبني التوجه المباشر نحو الخطاء والجوانب السلبية في الرسومات بشكل أساسي والتصميم بوجه ثانوي. فالبحث المكثف والمجتهد في هامش الأخطاء يبدو أكثر يسرا من التدقيق في المحتوى الفكري للعمل الطلابي ومناقشة الجوانب الإيجابية له دون إنحيازات.

 لاشك في عدم وجود هيكل موحد لعمليات النقد المعماري كثيرا ما تتباين صيغ التقييم في مدارس العمارة، حيث كثيرا مايتم تبني نظام التصنيف النقدي، والذي بعضها على سبيل المثال يتم وضع تصنيف (الفكرة، والتطوير وقابلية التنفيذ والإظهار) بغرض ضمان الموضوعية، وأخرى كالقائمة التي يتبناها دينيس شارب كأداة عمل يمكن بموجبها دفع الطالب للتركيز في عرضهم اللفظي والرسومات على مجالات (البيئة، الإقتصاديات، الوظيفة، الإنشاء، الثقافة، والجمايات ) وهي ذات القائمة التي تضفي موضوعية على التقييم. من جانب أخر قد يكون من المجدي أيضا إدراج مقرر لأساسيات النقد المعماري بالمناهج التعليمية المعمارية، حيث يتاح للطالب الفرصة لإدراك تباين المناهج كسبيل لإستيعاب مبادئ النقد المعماري، فضلا عن إختبار هيكلية الإستقصاء والبحث في الصحافة النقدية المتخصصة من خلال تطبيقات البحث عن القيم الجمالية في العمل المعماري على المستوى (الجماليات الإقتصادية) و (الجماليات الوظيفية) و (الجماليات البيئة) و (التقنية التنفيذ ومواد البناء) كما وضعها شارب أيضا في مقرر النقد المعماري.

المحاولة الثانية: مناقشة أثر التيارات النقدية المعمارية الدولية في قراءاتنا النقدية لأعمالنا:

 إن أطروحات الفكر النقدي في العمارة كثيرا ما تؤسس على مناهج وتيارات التصميم التي تبلورت ملامحها وذاعت أطر منظريها، ونحن في بلادنا لم يتسنى لنا إبتكار أي من هذه المناهج أو التيارات بإستثناء المحاولة بالمناداة بتبني ‘العمارة المحلية’ التي لم يتفق حتى الآن عن الكيفية والحاجة إلى ذلك، وفي غياب المنظرين لذلك. إن القراءة المعاصرة والقريبة الواضحة تبرز في المناظرات التي سادت صالونات الفكر المعماري عند بزوغ ‘ما بعد الحداثة’ وإستحداثها مواجهة صريحة ‘للحداثة’، وكذلك الحال في مقاومة ‘التفكيكية’، والتعبير’التقني’، (الذي لم يجد له مكانا في أرضنا لغياب تقنية صناعية معاصرة للبناء) وما نراه اليوم من ميل واضح نحو التكوينات التشكيلية (وإستعراضاتها)، وهى تبدو أحيانا صدى لتوقيعات لنجوم العمارة في العالم من أفراد وشركات.

٧

إن العمارة تملك مساحة لعديد من التقاطعات الثقافية فهي منارة تواصل إنساني، ومحطة جاذبة لعمليات النقد. لذا فإن الكتابات النقدية المعمارية في التيار الدولي اليوم بلغت درجة كبيرة من الإنتشار، و لها حضورها المؤثر كميا ونوعيا. فالمكتبات الأكاديمية تزخر بالمراجع والمجلات والمقالات، حتى بات تصنيفها أمر لامناص منه ككتابات نقدية معمارية متخصصة، الأمر الذي كان له أثره الملحوظ في ميكانيكية وهيكلية النقد المعماري. هنا بدا لي جانب مؤثر وهو أن التيارات النقدية الدولية و ناتج الأعمال المعمارية في علاقة نوعية طردية (نوعيا وكميا). كما أن صدى التيارات النقدية الدولية يتردد في ديارنا (كأعمال معمارية والنقد الدائر حولها) فأصبحت بالتالي عمارة مرجعية (للإستدلال) ونقد مرجعي (للإسترشاد) في آلية تعمل في غفلة منا على تحجيم تطلعاتنا والإنقياد المستمر لتجارب لها بيئتها وثقافة محيطها ومحددات وجودها . ٤إن تواجد مؤسسة الجمعية الدولية للنقاد المعماريين، لا تعني وحدة الفكر أو الرؤى أو المنهج النقدي فإستقلالية الناقد أمر أساسي وهو أمر يفرضه تباين خلفيات التعليم والثقافة المعمارية للناقد، إنها مجرد أرضية دولية لنشر وتبادل وجهات النظر وتتيح مشاركة النقاد في المحافل المعمارية وأكثرها أهمية المسابقات المعمارية. هذه الجمعية جل أعضاؤها من المنظرين والمعماريين الذين يتم ترشيحهم لمزاولة النقد ويستمر نشاطهم كالتزام شخصي. تضم هذه الجمعية في عضويتها بعض الشخصيات من دول العالم الإسلامي والدول النامية وشخصية واحدة من العالم العربي الأستاذة سامية راب! الجدير بالإشارة أن الجمعية الدولية للنقاد المعماريين مؤسسة على التواصل الثقافي المتنوع دوليا، ويسعى اعضاؤها إلى الخطاب الإنساني الحيادي في تنمية رؤاهم الجمالية ودراسة قضايا العمارة والعمران.

 المحاولة الثالثة: قراءة واقع مسار النقد المعماري في ليبيا

٥ هنا بدا لي جانب متلازم لما تم الحديث عنه كان قد نبهتني إليه زميلة معمارية حول الصدي النقدي الدولي والإستدلال بشواهده ‘الغائبة’ أساسا في بلادنا ليس عادلا في ظل غياب ذات البيئة وشواهدها ومعطياتها الثقافية. فالأمر يبدو أن ما يعيب ذلك حقيقتان: أولهما غياب مناخ النقد المحترف (فما نلمسه في النقد ‘الإستدلالي’ الذي بات سلوكا عاما في شتى مناحي الحياة والعمارة ليست باستثناء) نمليه على أعمال محلية مجتهدة. إن غياب مبادئ النقد البناء والموضوعي و إنتشار النقد العام (الناسخ للرؤية الدولية) لن يخدم العمارة بمعطياتها الثقافية المحلية. الحقيقة الثانية، وهي أكثر أهمية، مرتبطة بزاد النقد المعماري وهو العمل المعماري ذاته، إن ممارسة العمل المعماري في ليبيا شحيح بل هو مقتصر على المساكن، فإرتقاء النقد المعماري الوطني مرتبط بطبيعة وحجم وكثافة وتنوع الأعمال المعمارية، اللجوء إلى النقد العام هو ناتج طبيعي لمحدودية الأعمال، فيكثر أدعياء النقد ويقل ممارسي العمل المعماري. فبات عدد المتفرجين (المنتقدين) يتجاوز بمراحل عدد المجتهدين .

 من جانب أخر من المهم أن يتم تسليط الضوء على النقد المعماري والبحث في مدى إستقلاليته كعلم أو حقل معرفي. من المفيد هنا أن تتم المفاضلة بين نظريات العمارة وتاريخ العمارة والنقد المعماري، فكثيرا ما تبدو أن متشابكة إلا أنها في واقع الأمر منفصلة، ولكن ما يحدث أن الإلمام لدى دارس العمارة أو الفنون بالنظريات أو التاريخ يدفعه لإرتداء معطف الناقد! وهذا أمر متوقع مدفوع بفعل الخبرة والتراكم المعرفي لا سيما وأن إدراج مقررات ‘النقد المعماري’ في بعض المدارس المعمارية لازال حديثا! النقد المعماري وليد الوسط المعماري و الصحفي

 المحاولة الرابعة: مراجعة فرص تكون مناخ نقد معماري يخدم الحركة المعمارية في ليبيا؟

 ٦في هذه المراجعة قد يكون من المفيد طرح سؤال حول طبيعة العملية النقدية أولا. فالسمة الغالبة على العمليات النقدية أنها شخصية يكتبها الأفراد للوسط العام أو الخاص بحرص موضوعي كبير.إن النقد يتطلب إدارة عاقلة نحو الهدف، وأن يتحالف مع الحس السليم والواضح وأن يسترشد بالحكمة ويكون على درجة عالية من الحصافة بهدف تعزيز القيم الثقافية العامة.

 النقد أيضا قد يكون محتواه مثير للجدل ولكن يجب أن لا يكون بأي حال من الأحوال هجوميا فهو بذلك لا يقر الناقد على دوره. إن المدلول الفكري للعمل المعماري له أهميته ولكن دونما مبالغة، فالخطاب النقدي يستهدف الجميع وليس الوسط المعماري فحسب، ولكن دون الإخلال بملائمة النقد لحاجات الموضوع الفكرية.

 إنه وعلى الرغم من حضور الفكر المعماري الوطني، إلا أن النقد المعماري يتردد في الظهور في بلادنا، إن لم يكن مقيدا أو محظورا بفعل طبيعة مجتمعنا العاطفية (الانفعالية) في التعبير ودلالاته. إن الحركة النقدية في الغرب مرتبطة أساسا بنشر المعلومات عن النشاط المعماري وتطورت بفعل الطبيعة العقلانية المادية للمجتمع

المراجعة الخامسة حول التساؤل: من يملك أن يكون ناقدا معماريا؟

 cartoon-black-and-white-line-drawing-of-a-critic-holding-a-bleeding-pen-by-toonaday-9790وحده القادم من الوسط المعماري مؤهلا بإقتدار أن يخوض تجربة النقد المعماري، فالقادم من خلفية تعليمية مختلفة أوحقل معرفي كالناقد الصحفي أو المؤرخ الأكاديمي قد لا يجانبه الصواب في قراءته للعمل أو النشاط المعماري موضوع النقد، مع الإحتفاظ بالإستثناء. فناقد العمل المعماري يشترط فيه الإلمام بكيفية صنعه، بمعنى إدراك مسار عمليات التصميم ومركبات العمل، ومحددات الحل ومداخله.

أيضا قد يكون من المجدي إستعراض الناقد ومن المستهدف بأطروحاته لنقدية؟ فالناقد بشكل عام يتمحور إهتمامه حول طبيعة العملية النقدية وقواعدها الجمالية، ومداها التوصيفي للعمل المعماري وصدى وقعها على السامعين. إنه بذلك يدفع بالعملية النقدية لأن ترتبط بشكل أساسي بالثقافة السائدة للمجتمع وقيمها. ان الثقافة محور النقد المعماري وهي ليست ثقافة القلة بل كما يجدها ت. س. إليوت : تلك التي تتضمن الأنشطة الفاعلة وإهتمامات الناس.

 الناقد المعماري في إيجاز يعتمد على قدراته ويستمد رؤاه من مشاعره وروحه، وهو أوهي وبكل ثقة وإقتدار يقدم جانب معرفي يتسم بالدقة والوعي الكاملين والقدرة على تحقيق قبول الثلاثي: المصمم والقارئ والنقاد من خلال إستحضار صورة العمل بوضوح وقراءة متأنية حيادية للفكر وخصائص ووضع العمل موضوع النقد وروابطه الثقافية بمراعاة التردد في القيم الجمالية وتغير الذائقة. إن تفسير الجماليات وتتبع مراحل ومحطات تحولها أمر وثيق الصلة بانقد المعماري طالما العمارة حالة ثقافية تشكيلية، وهو أمر مسؤول عنه الناقد حيث يكون بذلك مؤهل لتحفيز وتشجيع حماسة الخلق والإبداع وإثراء النقاش.

 الناقد وسيط فكري بين المصمم والمجتمع، فهو ينقل رسالة العمل المعماري بعقلانية ويصيغ إمتداد لعمل تاريخيا وإستشراف أثره المستقبلي، وهو بذلك يجب أن لا يكون قاضيا بل وسيطا أدبيا في تحرير نوايا وخطاب العمارة، ومساهما في رصد بوصلة التيارات الفكرية المعمارية المحلية.

 إن دور الناقد المعماري قد توسع بشكل كبير، فتكونت مجموعات من النقاد عرفت بأطروحاتها ومواقفها وخلفياتها الثقافية. وهذه المجموعات تبلورت في إيطاليا والولايات المتحدة ودول إسكندانفيا وبريطانيا إلا أنها أحتلت أرضيات دولية في خطابها النقدي. كما أنها هي في واقع الأمر إمتداد لكتابات القرن التاسع عشر التي برز خلالها جون راسكين وكتابه التنظيري ‘المصابيح السبعة في العمارة’ الذي ناقش فيه مصابيح (التضحية، والحقيقة، والقوة، والجمال، والحياة، والذاكرة، والقانون).

محاولة أخيرة إضافية

هذه المحاولة بدون عنوان للضبابية التي تغلف مركبات النقد المعماري من (موضوع وناقد ونقد وثقافة نقدية) إلا أنها تدعو  إلى:– أهمية إدراك أن حاجتنا اليوم أكثر إلى التكافل والحوار المستمر ورعاية هذا الرافد المعماري الهام ، وبأن النقد المعماري مسؤولية مشتركة بين الأكاديميا والمؤسسة المهنية. أنه على مؤسسات الدولة وضع أولوية التعاقد مع المكاتب المعمارية الوطنية لتحقيق بيئة قادرة على رعاية نقد معماري مسؤول، وأن تعمل الهيئة الليبية للعمارة على إصدارمطبوعات لرعاية نقد معماري وطني رشيد.