التكعيبية البيضاء في ثنايا العمارة المحلية الليبية! الجزء الأول ..

ورشة عمل تبحث في المحاولة المعمارية الليبية المعاصرة

دراسة تكوين عمران محلي – ككلة – ليبيا – مصطفى المزوغي

في متابعة اتجاهات الفكر المعماري المعاصر لم يكن بد من القراءة المتأملة لمجموع الفكر المعماري وتباين تياراته التي كانت مهدها جميعا التيار الحداثي الذي صاحب الثورة الصناعية في أوروبا وأمريكا والذي امتد صداه التعبيري للدول التي لم تختبر أثر بيئة العيش الصناعية كما هو الحال في ليبيا!

سطعت أسماء برامانتي وليوناردو وأنجلو وغيرهم كأسماء وضعت لبنات عصر النهضة في القرن الخامس عشر، والتاريخ أيضا يحفظ مكانة وأسماء عصر العالم الصناعي في القرن العشرين، مثل سيزان و بيكاسو وبراك وموندريان و جروبيوس. لقد ساهم التيار الطلائعي في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في تمهيد الدرب للحداثة كتيار  تعبيري يؤمن بحضور العلوم والتقنية، والعقلانية، والسرعة، وهدير الألات[1].  هذا التيار التعبيري تمت تجزئته إلى سلسلة من الحركات كالإنطباعية (التأثيرية)، والمستقبلية، والتكعيبية، والبنائية، والدادية، و السريالية و التعبيرية، إلا أن وحدها التكعيبية التي برزت بإتفاق المؤرخين كحجر الزاوية للحداثة.

“هل يمكن لي تكرار ما أخبرتك به يوما: عليك أن تعامل الطبيعة بتكوينات الإسطوانة والكرة والمخروط، فكل شئ بمنظور ملائم حيث يكون كل جانب لعنصر ما أو مسطح بإتجاه نحو نقطة مركزية. الخطوط في تواز والأفق لتظهر المدى في قاطع من الطبيعة، أو إن شئت إنبلاج المشهد الرباني الممتد أمام أعيننا. خطوط تتعامد على الأفق لترسم العمق” كان هذا مقطع من مراسلة باول سيزان (19/1/1839 -2/10/1906) الشهيرة إلى أيميل بيرنارد في الخامس عشر من أبريل عام 1904.  هذا الطرح بات بمثابة البيان الأول للتحرر من قيود المنظور وضوابط عصر النهضة والشروع في البحث عن رؤى تشكيلية ضمن مسار جديد.

Emile Bernard

البحث في مكنون الطبيعة الهندسي كان قد تلمس سيزان دروبها ضمن  مسارين أساسين كما وجدها رسامي التكعيبية لاحقا مثل بيكاسو وباراك وأخرون. المسار الأول هو السمات الهندسية في التكوينات الطبيعية التي بدت ظاهرة على الرغم من سعي سيزان في الوصول إلى حجوم من خلال المسطحات الملونة. المسار الثاني في أعمال سيزان هو التحرر من ضوابط المنظور الكلاسيكية والتي أرساها عصر النهضة، حتى أن كل عنصر في التكوين يبدو وكأن له فضاءه المستقل وزاوية منظور خاصة به. لقد شرع النقاد في تعزيز هذين المسارين بتسليط الضوء على تقنية التنفيذ في أعمال سيزان حيث كان إستخدامه لضربات الفرشاة ‘البناءة’ وتفاديه للخط لتعيين حدود عناصر التكوين بتوظيف درجات لونية مشبعة. تعارف النقاد على وصف محاولات سيزان لاحقا بأنها رائدة في تكوينات مجردة ثلاثية الأبعاد تبلورت باجتهاد مكثف في دراسة الكتل والفضاءات وترجمتها إلى مساحات لونية.



Paul Cézanne, Mont Sainte-Victoire, 1904, Philadelphia Museum of Art

لقد دأب المؤرخون في تدوين بدايات الحدث التكعيبي كأسلوب تعبيري، وتأريخه كنشأة تيار فكري، بالإشارة الثابتة إلى محتوى رسالة باول سيزان ومضمونها الفكري في البحث عن الخواص الهندسية الكامنة بمحيطنا الطبيعي كوسيلة تعبير. أيضا ساد الإتفاق على أن البداية الفعلية كانت قد أقترنت بـ ‘صالون الخريف’ الذي كان يقام في باريس سنويا، حين قدم جورج براك عام 1908 محاولاته التشكيلية المتأثرة بأطروحات باول سيزان حول الشكل الهندسي كجوهر بنية الطبيعة. الفنان العشريني اليافع جورج براك، اختار قضاء صيف 1908 في جنوب فرنسا بمنطقة لواستاك، حيث كانت محطة البحث لسيزان، والتي وصف تأثره بمنهجه “لقد كانت أكبر من حالة تأثر إنها بمثابة دعوة. سيزان كان أول من أنفصل عن المنظور الميكانيكي المنتظم”2].


تجدر الإشارة هنا إلى أن دافع التسمية لمسار هذا التيار التشكيلي بالتكعيبية، قد جاءت لاحقا ففي البدء واجهت أعمال سيزان رفضا من قبل النقاد حيث بدت لهم أنها نقلة متسرعة ومباشرة من الماضي إلى الحاضر، وتم وصفها بالوحشية والغير لبقة والطفولية والبدائية[3]. تغيرت وجهة نظر النقاد لاحقا بعد وفاة سيزان وتحولت معها الملامح السلبية إلى إيجابية حتى أن الأوصاف بدت مرادفات لمسميات رافقت الإتجاهات التي انبثقت من محاولات سيزان.

إن تسمية ‘التكعيبية’  أمرا ليس عادلا فالمحاولة في واقعها تدفعها الأفكار الطلائعية المتجددة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهو ما دأب عليه سيزان في أعماله من إعادة ترتيب المشهد الطبيعي، والذي نقله من مشاهد القرية بلوستاك وتحديدا البيئة العمرانية القائمة بها وهي تحديدا ما كان له الأثر البالغ في أعماله. أن ‘التكعيبية’ مرحلة تحول متكاملة وبتأثير ثقافي شامل لم تشهده الإنسانية منذ عصر النهضة إلا أن كما ورد على لسان المؤرخين أن التسمية فعليا أطلقت عندما تم رفض عملين من أعمال جورج براك الستة التي تم تقديمها إلى ‘صالون الخريف’ عام 1908،  والتي وصفها صارخا ماتيس بأنها ‘بل هي مجرد مكعبات صغيرة!’، في حين كتب عنها الناقد فوكسيل “السيد براك هو شاب جرئ … يقوم بتشكيل مجموعات صغيرة مشوهة ومبسطة بشكل مريع. إنه يحتقر الشكل فيختزل المشهد والأشكال والبيوت إلى  نماذج هندسية، وإلى مكعبات”[4].


(يمين)Georges Braque, Viaduct at L’Estaque, 1908, Centre Pompidou, Paris
(يسار)Georges Braque, Houses at L’Estaque, 1908, Museum of Fine Arts, Bern

إنه في إطار هدف طرح هذه الورقة سيتحول النقاش هنا إلى صدى هذا الطرح التكعيبي معماريا، الذي كان أيضا ضمن التيارات الفكرية الطلائعية في عصر الآلة من بدايات القرن العشرين.  تجذرت الحركة التكعيبية تشكيليا بريادة براك وبيكاسو في تعاون لصيق في الفترة ما بين 1908 والحرب العالمية الأولى في 1914 ضمن زيارات متبادلة للمراسم وتبادل الأفكار والتنافس الخلاق حتى أن عدد من الأعمال تعذر على الخبراء نسبها إلى أي منهما، لقد وجد براك القيمة في التكعيبية وأجتهد بيكاسو فعليا في استغلال كل الفرص الكامنة بها، والذي وصف سيزان بأنه أب الجميع.

قام المؤرخون بتصنيف تبلور التيار التكعيبي تشكيليا  إلى مراحل ثلاث؛ أولها (1907-1909) والتي إتسمت بالمحاولة في إختزال الطبيعة إلى مساحات هندسية بسيطة وبرزت خلالها المحاولات التشكيلية لبول سيزان. التكعيبية التحليلية (1910- 1912) صنفت كمرحلة ثانية كان الإجتهاد فيها تفكيك التكوين إلى مكعبات ليتم تجميعها باستخدام تدرجات اللون الواحد، وشكلت الفترة (1912-1914) المرحلة الثالثة والتي سادها الفعل التكعيبي التركيبي تفاديا للطرح التحليلي المبالغ.

الجزء الثاني من حلقة النقاش : التكعيبية كتيار فكري معماري


[1] – Carol Donnell-Kotrozo, ‘Cezanne, Cubism, and the Destination Theory of Style’, The Journal of Aesthetic Education, Vol. 13, No. 4 (Oct., 1979), pp. 93-108  (P.93)

[2] – Kuspit, D. (1989) Cubist Hypochondria on The Case of Picasso and Braque, Art Forum 28, pp. 112-116.

[3] – As quoted in William Rubin, Picasso and Braque: Pioneering Cubism, New York: The Museum of Modern Art, 1989, p.353.

[4] – Thackara J. (1988) Design After Modernism. Thames and Hudson, Londan.

أضف تعليق