التكعيبية البيضاء في ثنايا العمارة المحلية الليبية! الجزء الثاني ..

إن التكعيبية كتيار استند في حضوره فنيا على البحث والتحليل الفكري و الإنشائي، والمعماري والهندسي والكلاسيكي والمنطقي المحسوب[1]. فطبيعة مواضيع الأعمال التكعيبية التي أقتربت من مشاهد المباني والمستعملات و منتجات الحركة الصناعية، إضافة إلى الإختلاف البارز عن تقاليد إستخدام الورق والفحم والقماش والزيت، تحول الإستخدام إلى الورق المقوى والعلب ومسامير وكل ما يمكن توظيفه لإبراز تكوينات مجسمة وإثراء القيم اللونية بها، ولتبدو وكأنها في حضور مؤكد وملموس. لقد دفع بالتحول الكلي عن تقاليد الفنون التي دأب التشكيليون على المحافظة عليها إلى ولادة صيغ جديدة اعتمدت على البناء العلمي والطرق المنظمة، وبذلك تغيرت منظومة الجماليات الأوروبية الموروثة التي دامت لقرون.


في مطالعة قراءة إيفان مارجوليوس في كتابه ‘التكعيبية في العمارة والفنون التطبيقية’ حول نشأة التكعيبية كتيار، قبل إندلاع الحرب العالمية الأولى، ساد الوسط المعماري في ‘تشيكوسلوفاكيا’ وأثر محدود في فرنسا، والتي يجدها كظاهرة قوية و معزولة جغرافيا في آن واحد، تبلورت دون دعم أو إرساء جذور في أي مكان آخر في العالم . التيار التكعيبي التشيكسلوفاكي  برز كردة فعل  وتأثر الوسط المعماري آنذاك بالإتجاه التكعيبي في الفنون والذي سبق ظهوره بعدة سنوات. يشير أيضا إلى أن العمارة التكعيبية التشيكوسلوفاكية تيار ينشد التخلص من المادية الوضعية ‘positivist materialism’ التي صبغت أعمال القرن التاسع عشر وتقاليد الوظيفية التي أرسى أسسها جوتفريد سيمبر Gottfried Semper وأوتو فاقنر Otto Wagner[2]. لقد رفض التكعيبيون العقلانية والنفعية اللذين يستمدان جذورهما من نظريات عصر النهضة وبدأ الميل في أعمالهم إلى تكوينات أواخر فترات القوطية وأواخر الباروك.

يصف إنتاج الفترة بأن التكوينات المائلة والمخروطية والمقطوعة والأشكال الديناميكية بأنها أكثر قربا لتكوينات فترة الباروك من الفن الجديد، في الكتل الثقيلة ذات الهيئة الغامضة و واجهات اللون الواحد، والأعمال المعدنية والسطوح المتكسرة التي تلقي بظلالها، جميعها تضفي شعورا بالحس الديكوري الغزير في أعمال أواخر القرن السابع عشر.

إن البحث الدؤوب من قبل رواد التكعيبية عن الخواص الجمالية للفنون الفرعونية، وزخارف قصر كنوسوس في جزيرة كريت، وبياض ونقاء تكوين عمران المتوسط، والأقنعة الأفريقية وضوابط حروفيات وزخارف الشرق، كل ذلك  دفع بأن تتبوأ التكعيبية مكانتها العالمية. وقد يكون من المهم تسليط الضوء على مبدأ ‘فكرة الحل’ لمشكلة تصميم ما، الذي أتاح للوسط التشكيلي والمعماري طرح مضامين شمولية لم تغفل عن معالجة التفاصيل بتدقيق جلي. إن مساحة الفصل  بين فكرة التصميم وتنفيذها (بفعل اختبارها في رسومات) فسح المجال أمام ولادة جملة من النيات مثل الصيغ التعبيرية والدلالات، والوظيفة، والتكوين وأسس التصميم، والمنظومات الإنشائية ومواد التنفيذ، حافظت على حضورها لا سيما في عالم العمارة حتى يومنا هذا.


يمكن الوقوف عند مضمون ارتبط بشكل وثيق بتيار التكعيبية، وهو تعبير ‘البساطة‘. إن فكرة البساطة في أوضح تعريف لها هو أن يكون الحال غير مركب ومعقد، بالبساطة في التكعيبية تعنى النقاء، والوضوح  فكريا و تعبيريا. إن مفهوم البساطة كان السبيل للوصول إلى حلول تكوينات معمارية اكتسبت الثقة والتنوع واليقين لإعتمادها على العلاقة في عناصر التكوين. الإمتداد التجريدي الذي أعتمد على إستخدام الحس الهندسي والشكل واللون لنقل المضمون والتعبير، دفع بالعمارة إلى أن تختزل حضورها إلى الشكل الهندسي النقي وحضور بياضها المبين.

إن استحضار نموذج العمارة المحلية التي استوطنت بلادي ليبيا كمثال للدراسة والبحث في خصائصه الهندسية والتعبيرية والوظيف وعناصر التكوين التي توارثها الأجيال يستهدف مناقشة تعيين أهمية هذا الرصيد كمصدر إلهام التيار المعماري ساد ربوع الوطن خلال فترة الإحتلال الإيطالي، وتعثر خطواتنا المعاصرة في غياب إدراكنا قيمة ما نملك من هذا الرصيد.

إن نماذج العمارة المحلية في ليبيا والتي أشتركت في سمة البساطة ونقاء التكوينات على رغم من تنوع بيئة العمران من صحراوية أو جبلية أو ساحلية وتباين تقانات التنفيذ ومواد البناء المتوفرة محليا، يمكن استعراض أمثلة لها ضمن إطار بمحددات إبتدائية : السمات التجريدية’، ‘صيغ التشكيل‘، ‘الحس الهندسي’، ‘أسس التصميم التكعيبي’ أشتركت بشكل مؤثر في ناتج العمارة المتوارث.  إن الطرح لا يميل إلى المقارنة بل ينشد بالأساس البحث في الخواص المشتركة التي دفعت بالبساطة لأن تكون عنوانا حاضرا لها عبر الزمن.

سيتم إستعراض هذه المحددات في الجزء الثالث.

[1] -Robbins, D. (1988) Abbreviated Historiography of Cubism, Art Journal 47, pp. 277-283.

[2]The Four Elements of Architecture is a book by the German architect Gottfried Semper. Published in 1851, it is an attempt to explain the origins of architecture through the lens of anthropology. The book divides architecture into four distinct elements: the hearth, the roof, the enclosure and the mound.[1] The origins of each element can be found in the traditional crafts of ancient “barbarian:

(hearth -metallurgy, ceramic) (roof – carpentry) (enclosure – weaving) (mound – earthwork)

أضف تعليق