التكعيبية البيضاء في ثنايا العمارة المحلية الليبية! الجزء الثالث ..

التكعيبية في العمارة المحلية والسمات التجريدية..

إن تعبير ‘التجريد’ المرتبط  بالتكعيبية لا يعكس فعليا تيار ‘الفن التجريدي’ بل هو قراءة فكرية لنظم الأشكال المجردة من خلال وعي للفضاءات التي تكونها المسطحات والخطوط والحجوم دون الخوض في التفاصيل،  والتي إن وجدت بالحضور يكون لتعزيز التكوين. إن التحام البساطة بالتكوين يفي بإدراك الشكل والتمعن به من خلال الحواس، وكأنها قراءة حكيمة في التكوين التكعيبي. إن المحاولة التي تضمنتها مجموعة الرسومات التالية لكل من عمران طرابلس وككلة وغدامس، بمثابة إختزال المكونات المعمارية للحضور العمراني العتيق إلى مجرد أسطح تتيح فرصة قراءة معنى البساطة المقترنة بالتجريد، والتي قد يتطلب من المرء خلال زيارته لهذه المدن أو ما شابهها محاولة الإجتهاد في قراءة ما يراه فكريا و اختبار حالة التجرد في تكويناتها التكعيبية البسيطة بفسح المجال للحواس في استبعاد التفاصيل واختزال ما تراه العين إلى سطوح وخطوط وحجوم، والبحث المتأني في فرص الحضور التعبيري للضوء والظل .

تحليل للسمات التجريدية: عمارة عمران طرابلس المدينة القديمة
تحليل السمات التجريدية : عمارة عمران ككلة العتيق
تحليل السمات التجريدية : عمارة عمران غدامس المدينة القديمة

فمحاولة التجريد هنا تهدف إلى إختصار التكوين العمراني في مركباته المعمارية الأساسية من سطوح وكتلة وفضاءات، وإختبار حضور الحس التكعيبي كمحدد رئيس يمكن له أن يسود الوحدة المكونة للنسيج العمراني في كل من البيئات العمرانية التقليدية العتيقة في ليبيا. إن الاجتهاد في البحث عن أمثلة أخرى سيعمل على التحقق من الخواص التكعيبية السائدة، كما ستكون قراءة الأشكال الهندسية الاسطوانية والكروية أكثر وضوحا وتبدو بشكل إستثنائي حاضرة في العمارة ‘الجامعة’ ودوافعها الإنشائية والفراغية والرمزية كالمآذن، و القباب والأقبية.

جامع عمورة
زويلة
جامع بن دليس – بني وليد – ليبيا

التكعيبية في العمارة المحلية وصيغ التشكيل ..

في إستعراض دلالات الحس التشكيلي التكعيبي في العمارة الليبية التقليدية تبدو وكأنها ضمن سياق تشكيلي مشترك أسهمت محدداتها الثقافية والبيئية والوظيفية والتقنية في صياغة ملامحه. إن الرصيد المتناثر على الأرض الليبية من عمارة تقليدية وعمران يحمل في طياته وحدة الصيغة التشكيلية. إنه يملك السمة الثقافية المستقلة في انتمائه الجمالي، والموضوعية بيئيا بالتكيف الصديق، والملائمة الفراغية وظيفيا، والموضوعية إنشائيا في توافق مواد البناء وتقنية التنفيذ. إلا أن كل ذلك لم يفقده روح التباين والتنوع. 

تتقارب النيات التشكيلية في الفنون والعمارة، فيكون السعي التشكيلي للكتل ينشد التوازن والتنوع، وإن كان للتكعيبية كحركة فنية شغف في تبني ‘التعقيد’ في التكوين وعناصره. إن تأثير التشكيل في إختزال عناصر الطبيعة كتكوين تكعيبي، كانت محصلته أن الرؤية أصبحت للشكل لا الموضوع، فالهدف هو إبتكار لغة بصرية تعبيرية تلائم التفكير الحداثي. بالتالي أصبح الإنتاج التشكيلي البصري محدد بدوافع موضوعية وليست شخصية، فكما يجدها جون بيرقير، في أن المحدد هو خلق تكوينات بأشكال هندسية بسيطة يمكن أن يتحقق معها أسس لغوية تعبيرية للشكل يقبلها الجميع بكل يسر.

إن الناتج من هذا التراص التراكبي، المؤسس على شكل وتكوين هيئة متكررة للمبنى، يتحدد معه مبادئ تشكيل الهيئة العمرانية السائدة. العمارة تبنت البساطة في التشكيل ضمن الحرص على وحدة الصفات وتنوعها وسمة التراص العمراني يشكل أحد أسرار الحس التكعيبي بها. ان المنوال المعماري في ذلك قد استغرق ردحا من الزمن كان فيه التوافق والتكامل والمحيط المعماري أولوية يتم تحقيقها بالتأمل والتمعن والتدبر حتى يسكن المعمار الجديد في الجوار. فتكون الصفة التراكبية لهذا الجوار وسبل استيفاء المتطلبات الوظيفية والبيئية فراغيا شأن يرسمه الحس التكعيبي من خلال الإضافة والحذف. ويبدو واضحا أن العملية البنائية هنا لم تستند على وحدة المكعب الهندسي الصريح وتكراره، وإن اتفقت ‘وحدة التصميم والتنفيذ’ دون أن يفصلها ‘الرسم’ على معايير توارثت  الأجيال من البنائين على احترامها.

إن التكعيبية باتت تيار بنيوي للشكل وهو ما نجد صداه في عدد من أعمال رواد عمارة الحداثة في ميولهم التكعيبية الذين كان شغفهم بالشكل إستثنائي لا سيما في البحث عن هذا الحس التكعيبي في عمارة المدن التقليدية في الشمال الأفريقي.  إن هذا الشغف نجده بوضوح في أعمال عدد من أعمال التيار العقلاني للعمارة الإستعمارية في ليبيا أيضا. ضمن الدراسات حول أثر العمارة الكولونيالية الإيطالية في ليبيا، تشير فيتوريا كابريسي في ورقة بحثية إلى الجدل الذي كان دائرا خلال الفترة الفاشية الإيطالية حول الطراز الكولونيالي الملائم للمستعمرات، وإلى الإنتاج المعماري للمعماريين الإيطاليين، منذ منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي الذي كان أسلوبًا مستوحى من أشكال العمارة الليبية التقليدية فقط، مما يشير أن بإعادة تحميل “التكعيبية” المحلية تعتبر أكثر مساهمة معمارية أصيلة في المستعمرة. وفي هذا الصدد تستشهد تحت تساؤل هل التكعيبية المحلية تعني الحداثة؟ بما نشره [1] جيوفاني بيليغريني وتبنيه لمصطلح ‘التكعيبية’ في وصف تكوين العمارة المحلية الليبية، والذي استخدمه كسمة شكلية أسلوبية مرتبطة بمظهر المباني الخارجي. قام بيليغريني بتجزئة مصطلح التكعيبية إلى ثلاث تصنيفات أولها: ‘تكعيبية إبتدائية’ في وصف منزل محلي في طرابلس والثاني ‘تكعيبية كلاسيكية’ في وصف قاعدة مئذنة في انتقالها من قاعدة مكعبة إلى إسطوانة، والتصنيف الثالث ‘ تكعيبية متصلبة’ للأحجام المضطربة داخل نسيج المدينة القديمة العمراني.

الصور لجيوفاني بيليغريني

تبنت العمارة الإيطالية الوافدة إلى ليبيا أسلوب تعبيري معين وهو إعادة تفصيل العمارة المحلية التقليدية في ليبيا والاستلهام منها، الأمر الذي كانت معه هذه السمة التكعيبية كأكثر إسهام معماري متميز في المستعمرة. فالمحاولات المعمارية الكولونيالية التي اجتهدت في محاكاة الأسلوب العروبي أو المغاربي يصفها كارلو انريكو رافا في مقالة نشرت بمجلة ‘دوموس’ Domus عام 1931 بأنها مزيفة ووحشية، حيث أن هذه الطرز لا حضور لها في الأرض الليبية !

Giovanni Pellegrini من جانب آخر كان في ‘بيان عمارة المستعمرات’، الذي حرره عام 1936، وصف العمارة المحلية بأنها ذات جدران خالية من الفتحات ، ولكن عندما تكون الفتحات موجودة فهي صغيرة جدًا ، وفي هذه الحالة تكون محمية بواسطة حواجز ومشربيات، أو إذا كانت أكبر ، فهي محمية بأسوار سياج شبكي […] وبأن المدخل يتمتع بالارتفاع والديكور الرصين. لقد كان رافا مثل بيليغريني في الدعوة إلى دراسة وتأمل واعي ودقيق للعمارة المحلية الليبية، لأنها تحتوي على استجابات فعالة للبيئة المناخية القائمة، وأجد أن ذلك يشمل البيئة الثقافية السائدة أيضا.

إن المشهد السائد في عمارة العمران التقليدي هو التحرر من نظام الترتيب التعامدي الدقيق والذي نشهده في التقسيمات الإسكانية المتراصة في مواقع أخرى من المدينة، إلا أن منظومة الإنشاء وخواص مواد التنفيذ لها أثرها الملحوظ في تحديد نظام ترتيب أتفق عليه وكان بمثابة الضابط الأساسي للتكوين العمراني لها. إن القراءة المتمعنة في ‘الحس الهندسي’ و ‘أسس التصميم التكعيبي’ في عمائرنا المحلية واجبة وهي أيضا بمثابة أرض خصبة بأسرارها مما تحث المهتمين لسبر أغوارها وفك طلاسمها.

سيتم إستعراض هذه المحددات في الجزء الرابع.

[1] In Rassegna, 8, 1936, p.360, p.361.

أضف تعليق