أقلام زها حديد!

مقومات التفوق المعماري

1
تصوير : مصطفى المزوغي

كان يوم ضبابي بارد جرتني فيه قدماي عبر حدائق كينجستون بأشجارها العتيقة العارية من أوراقها إلى قاعة عرض ” سيربنتاين ساكلر جاليري”  وهي تختتم معرض إستثنائي لرسومات ولوحات زها حديد خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي . تابعت كغيري أعمال زها حديد منذ إنطلاقتها وتيار التفكيكية بل حاولت جاهدا استيعاب تلك الفترة وارهاصاتها والأعمال التي تناولها الإعلام المعماري، إلا أن الحماس للمتابعة بدا يخبو بتحول رواد التفكيكية التدريجي إلي مسار بدا لنا أكثر وضوحا وإن لازال متشبتا بنبذ الوظيفية والانجذاب نحو التكوين الظاهري.

 حرصت على الوقوف أمام لوحة تقديم المعرض وقرأتها. تقول زها في مقدمتها: “انا كنت على الدوام شغوفة بفكر الجزئيات والتجريد والإنفجارات التي سادت أفكار التفكيكية في التكرار والإنتاج المكثف. إلا أن بداية أعمالي المعمارية أرتبطت بالتيار الطلائعي الروسي وتحديدا أعمال كازامير ميلافيتش، فلقد كان له تأثير كبير كنموذج لتيار طلائعي حديث يتقاطع فيه الفن والتصميم”

زها حديد المولودة في بغداد عام 1950 توفيت عام 2016، كانت قد تلقت تعليمها المعماري بمدرسة الجمعية المعمارية  حين أنتقلت إلى لندن عام 1972، لتؤسس مكتب (زها حديد معماريون) في العام 1979 الذي شهد إنطلاقاتها المهنية حتى تاريخ وفاتها.

 تشير أيضا لوحة التقديم للمعرض أن زها حديد كانت تهتم كثيرا في أعمالها الوسيط بين العمارة وتنسيق المواقع والجيولوجيا، حيث يقوم مكتبها بتحقيق التكامل المنشود من خلال توظيف تقنيات خلاقة والتي عادة تؤتي ثمارها بتكوينات ديناميكية غير متوقعة. المعرض بإيجاز يقدم بيان زها حديد حول العالم المثالي بالنسبة لها، ويعرض كل أفكارها التي تشمل ترتيب الفضاء المعماري وتفسيرها الشخصي للواقع.

 إذن مالذي يمكن إضافته من تقديم؟

التجوال في المعرض بالنسبة لمعماري يمنح النفس راحة غامرة، ويستفز الفكر بعديد التساؤلات، قد يتطلب الأمر تكرار المشاهدة لعدد من اللوحات، وقد يسعى المرء لمحاولة الربط بين الرسومات وتواريخها ومواقع مشاريعها، فهي لغة خطاب قائمة بذاتها فما كتب كعناوين للوح والرسومات المعروضة لم يتجاوز التاريخ والمكان. إن خصائص رسومات زها حديد السريعة الحدسية (الإسكتشات) جديرة بالبحث، فهي مثال متكامل لتكامل العلاقة بين ناتج التصميم ومسار الرسم اليدوي السريع، فضلا عن كونها وسيلة مؤهلة لقراءة قدرات زها حديد الإسنثنائية في التصميم، إضافة إلى أثر القلم المستخدم !

 تعارف المصممين على أن مساحة الإبتكار تنحصر دائما في حدود التواصل البصري والناتج الخطي أو اللوني، فإكتشاف المعلومات وإختبارها حول الفكرة يكمن في التواصل وما تخطه الأقلام. فالرسم وسيط مرتبط بالمصمم، فهو لغة التعبير ووسيلة لتقديم الرؤية، والعمل المعماري ليس بإستثناء فهو يولد على سطح ورقة، ووسيطه الرسم الذي يجعل من الرؤية حالة مرئية والفكرة قادرة على التواصل.

زها حديد في رسومات بدت على وعي إستثنائي بقوة هذا الوسيط فالتحمت معه وصدقت في تواصلها معه حتى أن المرء يجد جميع ما أشتمله المعرض من رسومات سريعة ولوحات تنبض إخلاص وتفاني. الرسم بالنسبة لزها حديد لم يكن يوما وسيلة بل هو وسيلة وغاية في آن واحد. إن كم الإتقان الذي تشهد به اللوحات، التي تنوعت في وسائطها من حبر إلى اكريليك ومن ورق إلى قماش، جعل من اللوحات قيمة بذاتها لها خطابها المستقل الذي كثيرا كان لا ينشد أن يتبلور إلى كيان واقعي مرئي بل يكتفي بكونه صوت زها حديد.

هنا استوقفني السؤال: “هل نملك ذات القدرة على التواصل مع رسوماتنا اليوم ؟” إجابتي ستكون بنعم فهناك المئات من الوسط المعماري في بلادنا يملك باقتدار هذه السمات. ليبرز سؤال آخر: “لماذا إذن ليس لدينا العديد من زها حديد ؟” إن حجم الثقل الفكري والقدرة على إدراك المحيط برؤية خاصة والملكة على رسم إنعكاسات الإنطباع والإخلاص في التعبير، جميعها قدرات يجب أن تتوافر. ليبرز أيضا سؤال متجدد: “وكيف السبيل لتحقيق ذلك ؟” وحدها البيئة الراعية تكفل ذلك، فالتعليم المعماري الذي حظت به زها حديد في مؤسسة خلاقة، والحماية التي يكفلها الوسط المهني، والبيئة الثقافية المسؤولة، والنضج المجتمعي والمؤسساتي، جميعها عملت على مر السنين في صقل القدرة الخاصة لزها حديد، وهي الأخرى لم تألوا جهدا في الكفاح والعمل الدؤوب والصبر فلم يكن دربها يسيرا كما يبدو.

حان موعد مغادرتي للمعرض والمحاولة في لم شتات انطباعي يائسة، الفكر يتلاطم ليس في شأن زها حديد، بل في مقومات تفوقها!
حتما تضيق العبارة في الإجابة ولكن استوقفني أين يسكن قلم زها حديد! فهو دائما بين دفتي كتابها وفي ثنايا أوراقه خطوطا وقلما .
المستقبل يتم صنعه بأقلامنا
 سيربنتاين ساكلر جاليري (Serpentine Sackler Gallery)
الجمعية المعمارية (Architectural Association AA)

أضف تعليق