أبجديات طرابلس: حرف الكاف للكلمة

كاف الكلمة

للكلمة مملكة والمرء يملكها إلى أن ينطقها، فإن نطقها ملكته. هذا قول الأولين

القول الحسن طيب هواه، في فؤاد الصبا تسكن ذكراه، والقول الخبيث جارح صداه، جرحه نازف دون سواه. القول الثابت نسأل الباري جل علاه، فيه معروف ومغفرة  لا يخفاه. حاذر الجهر بسؤ القول تلقيه الألسن وتقوله الأفواه، وأحرص على القول الحسن فيكون سامعه من أولي الألباب وعلى الله هداه.

القول السديد لديه رقيب عتيد، فليكن سلاما وتقوى ودعاء للمجيد. يستقيم الإيمان باستقامة اللسان، فالصمت له أمان، وموجبات المغفرة قول حسان. طيب الكلام وادامة الصيام وتهجد العبد والناس نيام، يجزي بهم الغني في جناته حسن ختام. الكلمة تكتب لك أو عليك فأحذر أن تزلك وتنأى عن السلام. فذكر الله والأمر بالمعـــــروف خير الكلام.

تمام العقل في حفظ اللسان على الذكر والنهي عن المنكر  له ثقل في الميزان. فالحكمة لها أحكامها والصمت لها سلطان وأجعل الكلمة أسيرة في وثاقك ولا تكن أنت أسيرها فيكون الخذلان، وأدرك أن العاقل من عقل اللسان. كم من قليل الكلم يشار اليه بالبنان، وكثيره فارغ المعان.

العداوة أولها زلة لسان، نسأل الله العفو والغفران.

عزلة المرء دون عفو الإنسان حبس تكون فيه الندم  والحسرة قضبان.

وكم من كلمات سلبت النعم وجلبت النقم فاجعل للكلمة نور تكون لدنياك سرور وتضئ ظلمة القبور.

أبجديات طرابلس: حرف القاف للقربى

قاف القربى

“وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ”
نسيج تتشابك خيوطه وتدوم إذا ما أوتى حقه، فإذا ما سلب، تقطعت خيوطه وتمزقت أوصاله. صلة الرحم عبادة جليلة كتبها الله على عباده.
حق القربى في التواصل، فيه بركة العمر ، وتدفع بإذن الله نوائب الدهر.

كان كلما قابل أحدهم يسأله عن لقبه قبل اسمه، ويجتهد في سرد مفاصل أصوله ساعيا للوصول إلى جذوره، ذاكرا طيب من رحلو وشاكرا أفضال أهله.
إنهم أهل الخلق الكريم يذكرون أن صلة الرحم من شيم أهل الكرم وهي مثراة للنعم.
يولد المرء وتولد معه الفطرة في محبة أهله ونكران العقوق، تصافح عيناه الأقربون ثم الأقربون فيرى مع الزمن مراتب الحقوق. رهيف هو رابط القربى، ناعم ورقيق فالحذر من دوائر الوجع فتتقطع أوصاله بعد أن كان موثوق. وجع القربى بلسمه طيب الكلم وإن طالت ذكراه فأجره مرزوق.

في وصل القربى ،حنو اللقاء زاد لا ينضب، وبشاشة المحيا للب سخاء واهب، ولعذب الحديث سحر عجب، فالوصل سبيل مهذب فيه الأمان، حائل لقطع الأرحام، سكن للألفة والإطمئنان، عين راوية للنفس في رفق الأهل ضمآن.
القريب في إبتسامته رحمة، وفي ذكره نعمة، وفي قربه قوة، وفي رفقته صحبة. عائلة المرء ملاذ ووطن، في غيابهم غربة وشجن، وفي قربهم أنس ورضا بالغبطة مقترن. العائلة مأوى من أعاصير الحياة، ملاذ من سموم العداء، العائلة ثراء الصدق والإخلاص والود والضحكات دون رياء.

نصح ثمين في البحث عن جذر أمين، ولأسماء الفروع يكون التدوين، هكذا فضل شجرة القربى ثمارها كالزيتون والتين وهى حصن حصين.

أبجديات طرابلس: حرف الغين للغيث

غين الغيث

تحتفي طرابلس بالغيث دون سائر مدن الدنيا، يصاحبه سرور في قدومه سواء كان رذاذ أو زخات، فمعه يكون عبث الطفولة في غديره، وفي وميض البرق ودوي الرعد خفقان قلوب وألسن تتهجد الدعاء كثيرا. في حضور الغيث تطرق قطراته النوافذ، وتنساب متراقصة فترسم البسمات ويرحل الشجن. عند الغيث أيضا ترنو الأنظار إلى قطر تسللت من دائب التقاطر، ويسكن الطفل إلى دفء الحضن، يسترق السمع لهدير الميزاب فيلتصق رأسه الصغير  بكنف  الودادة سيدة الأحباب.

الغيث في طرابلس له ميقات ليال بيضاء حسام وأخر سوداء، والعزارة وبرد قرة العنز، وجمرات الهواء والماء والتراب لتكون جمرة الحسوم هي الختام. دفء سمر الليال وحكايات الكبار لها الوان جمر الكانون ورائحة الكاكاوية وطعم الشاي. ترتسم البسمة على الشفاه حين يسر الخبر  وحنو الأم أن ‘رشدة البرمة’ والقديد وليمة الغد غذاء.

شعاع شمس شتاء طرابلس كسول متراخ لا يتسلل منه سوى خيوط فجر قد لاح، تمسح على جبين طرابلس هجير صيف راحل، وتنسل في إحمرار خجل في جب ليل سدل ستاره تغلفه غيوم ماطرة عاصفة. الشمس يكون لها شروق بعد ليال عاصفة، فتبتهج النفس لدفئها. دفء البهجة بالشتاء تسري في عروق الحياة حتى أن الأشجار تتراقص وتتمايل، وبعضها يهوي من ثمالة الإحتفاء. الشيوخ يحتمون من قارص الرياح يرقبون أيام خلت في خطى طفل ماح بغدير لم يخلف له موعدا بذات المطراح.

الغيث ماسح جفاف الرمال يروي الأرض والإنسان والحيوان، إرتواء ظَمْآن. عند تلبد السماء بالغيوم، تتبدد في مدينتي الهموم، فالمطر هنا هطوله له نغم يتراقص على إيقاعه تراب أرضنا فتنبعث طيب النعم.

التكعيبية البيضاء في ثنايا العمارة المحلية الليبية! الجزء الرابع ..

التكعيبية في العمارة المحلية والحس الهندسي ..

في مراجعة تاريخ الإعمار الكولونيالي الإيطالي لطرابلس المستعمرة الحديثة، والجدل حول التيارات الفكرية المعمارية آنذاك وما خلصت إليه هذه المحاولات في الإتفاق على مسمى ‘العمارة المتوسطية’ كأسلوب لتعمير المستعمرات، وهو في الواقع كما وجدته فيتوريا كابريزي[1] وميا فوللر[2] في أن ‘المتوسطية’ هو تعبير توافقي يجمع بين بساطة العمارة المحلية في ليبيا والتي أطلق عليها ‘التكعيبية’ ومزيج معماري بنكهة إيطالية تجنبا للمخاطرة من تولد الشعور بالدونية في أن العمارة المحلية مصدر إلهام. ‘المتوسطية’ أيضا كان الاصطلاح المناسب اعتماده من السلطة الحاكمة في تقنين العمارة الكولونيالية المستمدة من روح العمارة المحلية.

إن الأمثلة التي جسدت ما تعارف عليه بأسلوب ‘العمارة المتوسطية في ليبيا’ عديدة، وهى أعمال اتسمت باقتباس مفردات وأسس تكوين العمارة الليبية التقليدية المحلية ‘التكعيبية البيضاء’. استندت جل هذه العمائر على مزيج مركب من الحجوم الهندسية الرئيسية، تم تجميعها بما يحقق تكوين متوازن بعضها يخضع لتوازن محوري بفعل التماثل كما هو الحال في عديد المراكز القروية التي يسيطر عليها حضور المبنى الديني، وأعمال معمارية أخرى اعتمدت في توازن حضورها على عوامل جمالية تحققت بفعل التضاد في سطوع الضوء على السطوح المصمتة والظلال العميقة للفتحات والممرات المظللة التي استمدت حضورها المؤثر من تكرار وحدة القوس والعمود.


على الرغم من حرص السلطات الإيطالية في إستثناء المباني الحكومية الرسمية من طابع ‘العمارة المتوسطية’ أو ‘التكعيبية البيضاء’ إلا أن عدد من الأعمال المعمارية لدوائر الدولة الرسمية بدا الأسلوب التكعيبي الأبيض حاضرا بمفرداته وبياض أسطحها وتضاد الضوء والظل في تكوينها. هذه الأعمال برز فيها المقياس اللاإنساني و التماثل كركيزة التوازن المحوري في الواجهات، كما برز تباينها في أعمال دي فاوسطو. التكوين الظاهري لمجمع فندق الودان أو المهاري والذي تأسس تكوين كل منهما على الأشكال الهندسية الأساسية التي تمتعت بها العمارة التكعيبية المحلية حيث الأبراج الإسطوانية والأسقف المخروطية والقباب مفردات تمت استعارتها وإعادة تجميعها في تكوين ذو ضوابط جمالية ولم تخضع لمحددي المقياس اللاإنساني أو التوازن المحوري اللذين نجدهما بارزين بمباني رسمية أخرى كما هو الحال في مبنى التأمين بميدان الجزائر على سبيل المثال لا الحصر.

إن تعدد الشواهد المعمارية الكولونيالية على أراضي ليبيا يتيح الخوض في عمليات بحث ودراسة وتحليل بما يؤكد اللجوء إلى رصيد التكعيبية الليبية البيضاء الساكنة بالعمائر المحلية التقليدية. إن مثل هذه الدراسات ستحمل في طيات نتائجها فرص اتساع الرؤية في إدراك المحاولة الإيطالية التي دأبت على الاجتهاد في تقديم أعمال تنشد الانتماء إلى المكان. إن الدرس المتأتي من ذلك هو الاجتهاد في المحاولة لإنتاج عمارة وطنية مسؤولة تتكامل فيها القيم الفراغية و الوظيفية والجمالية.

محاولة معاصرة (في المقياس اللاإنساني) على أنقاض عمل معماري بتوقيع كمال الكعبازي (رحمه الله)

لم يكن الهدف من تحرير سلسلة ورشة العمل الدعوة إلى محاكاة التجربة الإيطالية كما هو الحال المعماري المنتشر حاليا في طرابلس ـ إن الغرض الأساسي من الحوار هو العمل على إدراك مسار مراحل تبلورها والسعي الواعي في محاولات التأمل والتدبر للرصيد المعماري التكعيبي المحلي، وتبادل وجهات النظر حول نتائجها خصوصا للشريحة من الوسط المعماري الليبي الذين يشتركون في الميول نحو التيارات التقليلية والتكعيبية أو المسمى بإعادة إحياء المحلية.   

التكعيبية في العمارة المحلية و أسس التكوين

إن مراجعة المحاولة الإيطالية في سياق هذا العرض هو بمثابة محاولة الاسترشاد بمسار وناتج عمارة أجتهدت في الحفاظ على ثقافة وجنسية ونيات المعماري الكولونيالي في ليبيا، وتحت عنوان البحث في التكعيبية البيضاء في العمارة المحلية، ستكون المحاولة في عرض من شقين أولهما نموذج محاولة تحليلية لأسس تكوين عدد من الأمثلة المحلية التقليدية، والشق الثاني هو إستعراض عدد من المحاولات المعاصرة لتقديم عمارة مؤسسة على أرضية التكعيبية البيضاء الليبية.

إن النماذج المعروضة لعمارة مساجد محلية كأمثلة أجريت عليها محاولة تحليلية لأسس تكوينها فكانت النتائج اشتراكها في الحس التكعيبي هندسيا ومبدأ الحذف والإضافة في عناصر التكوين. إن إضافة القباب أو الأقواس أو حتى المآذن هي بمثابة تحوير في الشكل الإبتدائي (المكعب) ونقله إلى هيئة تشترك في الخصائص الهندسية كحجوم أو أشكال هندسية إبتدائية. إن فرص التحليل متأتية لكل الأمثلة المعمارية المحلية القائمة من بيوت ومساجد شيدت قبل ظهور المعماري الأكاديمي، وهي تجربة مفيدة ومهمة لكل من ينشد إدراك أسرار هذا المنهج التصميمي. فالخط المحلي التقليدي يتمتع بنقاء ووضوح وهيئة صريحة في تكوينه مما يتحقق معه ناتج الحذف والإضافة بشكل يسير وواثق . إن التنظيم الفراغي وترتيبه وتدرجه ومقياسه في معظم هذه المباني قد تكامل بشكل عضوي وتكوين .المبنى المرئي مما كثيرا ما يفلح في ترسيخ صدى مشاعري في نفس الزائر والمستخدم

تباين ناتج المحاولة التكعيبية في العمارة الليبية المعاصرة فالبعض أخذ منحى التقليد في الهيئة دون إدراك إسقاط ذلك فراغيا، والبعض الأخر تمادى في استعارة تفاصيل ظاهرية غاب معها بساطة ونقاء امتداد السطح الخارجي مما يضع ناتج المحاولة ضمن خانة العمارة المزيفة. إلا أنه كان قد برزت عديد المحاولات التي اجتهدت في محاولة تحقيق التوافق التكعيبي الهندسي للكتل والقيمة الفراغية له، ويجب أن لا نغفل عن تأكيد حضور المحاولات الشبابية الليبية أيضا في تبنيها للتيار التكعيبي البسيط (التقليلي)، وهو الدافع الحقيقي وراء كتابة هذه الأجزاء في محاولة تشجيع هذه العناصر للالتئام ،واللقاء للحوار والاجتهاد في البحث المشترك..

ان الدعوة المفتوحة للوسط المعماري الشبابي الليبي، الذي تشترك ميوله الفكرية المعمارية وطرح هذه الورشة، في المشاركة بالنقاش وتبادل الرؤى، وحتى يحين موعد رعاية هذا النشاط المعرفي ضمن ورشة عمل معمارية، أرجو أن نجد الفائدة فيما طرح، شاكرا لكم المرور الكريم والإطلاع على فكرة هذه الورشة وملخصها في أربعة أجزاء…

   

[1] Vittoria Capresi, The reinterpretation of Libyan Vernacular Architecture as the Answer to how to Build in the Colony’, Regionalism, Nationalism & Modern Architecture Conference Proceedings. Porto, October 25-27, 2018

[2] ‘Mediterraneity’: See Fuller, M. (2008). Mediterraneanism. French and Italian Architects’ designs in 1930s North African Cities. In S.K. Jayyusi (Ed.), The City in the Islamic World, Vol 2, Boston: Brill (pp.978-992).

التكعيبية البيضاء في ثنايا العمارة المحلية الليبية! الجزء الثالث ..

التكعيبية في العمارة المحلية والسمات التجريدية..

إن تعبير ‘التجريد’ المرتبط  بالتكعيبية لا يعكس فعليا تيار ‘الفن التجريدي’ بل هو قراءة فكرية لنظم الأشكال المجردة من خلال وعي للفضاءات التي تكونها المسطحات والخطوط والحجوم دون الخوض في التفاصيل،  والتي إن وجدت بالحضور يكون لتعزيز التكوين. إن التحام البساطة بالتكوين يفي بإدراك الشكل والتمعن به من خلال الحواس، وكأنها قراءة حكيمة في التكوين التكعيبي. إن المحاولة التي تضمنتها مجموعة الرسومات التالية لكل من عمران طرابلس وككلة وغدامس، بمثابة إختزال المكونات المعمارية للحضور العمراني العتيق إلى مجرد أسطح تتيح فرصة قراءة معنى البساطة المقترنة بالتجريد، والتي قد يتطلب من المرء خلال زيارته لهذه المدن أو ما شابهها محاولة الإجتهاد في قراءة ما يراه فكريا و اختبار حالة التجرد في تكويناتها التكعيبية البسيطة بفسح المجال للحواس في استبعاد التفاصيل واختزال ما تراه العين إلى سطوح وخطوط وحجوم، والبحث المتأني في فرص الحضور التعبيري للضوء والظل .

تحليل للسمات التجريدية: عمارة عمران طرابلس المدينة القديمة
تحليل السمات التجريدية : عمارة عمران ككلة العتيق
تحليل السمات التجريدية : عمارة عمران غدامس المدينة القديمة

فمحاولة التجريد هنا تهدف إلى إختصار التكوين العمراني في مركباته المعمارية الأساسية من سطوح وكتلة وفضاءات، وإختبار حضور الحس التكعيبي كمحدد رئيس يمكن له أن يسود الوحدة المكونة للنسيج العمراني في كل من البيئات العمرانية التقليدية العتيقة في ليبيا. إن الاجتهاد في البحث عن أمثلة أخرى سيعمل على التحقق من الخواص التكعيبية السائدة، كما ستكون قراءة الأشكال الهندسية الاسطوانية والكروية أكثر وضوحا وتبدو بشكل إستثنائي حاضرة في العمارة ‘الجامعة’ ودوافعها الإنشائية والفراغية والرمزية كالمآذن، و القباب والأقبية.

جامع عمورة
زويلة
جامع بن دليس – بني وليد – ليبيا

التكعيبية في العمارة المحلية وصيغ التشكيل ..

في إستعراض دلالات الحس التشكيلي التكعيبي في العمارة الليبية التقليدية تبدو وكأنها ضمن سياق تشكيلي مشترك أسهمت محدداتها الثقافية والبيئية والوظيفية والتقنية في صياغة ملامحه. إن الرصيد المتناثر على الأرض الليبية من عمارة تقليدية وعمران يحمل في طياته وحدة الصيغة التشكيلية. إنه يملك السمة الثقافية المستقلة في انتمائه الجمالي، والموضوعية بيئيا بالتكيف الصديق، والملائمة الفراغية وظيفيا، والموضوعية إنشائيا في توافق مواد البناء وتقنية التنفيذ. إلا أن كل ذلك لم يفقده روح التباين والتنوع. 

تتقارب النيات التشكيلية في الفنون والعمارة، فيكون السعي التشكيلي للكتل ينشد التوازن والتنوع، وإن كان للتكعيبية كحركة فنية شغف في تبني ‘التعقيد’ في التكوين وعناصره. إن تأثير التشكيل في إختزال عناصر الطبيعة كتكوين تكعيبي، كانت محصلته أن الرؤية أصبحت للشكل لا الموضوع، فالهدف هو إبتكار لغة بصرية تعبيرية تلائم التفكير الحداثي. بالتالي أصبح الإنتاج التشكيلي البصري محدد بدوافع موضوعية وليست شخصية، فكما يجدها جون بيرقير، في أن المحدد هو خلق تكوينات بأشكال هندسية بسيطة يمكن أن يتحقق معها أسس لغوية تعبيرية للشكل يقبلها الجميع بكل يسر.

إن الناتج من هذا التراص التراكبي، المؤسس على شكل وتكوين هيئة متكررة للمبنى، يتحدد معه مبادئ تشكيل الهيئة العمرانية السائدة. العمارة تبنت البساطة في التشكيل ضمن الحرص على وحدة الصفات وتنوعها وسمة التراص العمراني يشكل أحد أسرار الحس التكعيبي بها. ان المنوال المعماري في ذلك قد استغرق ردحا من الزمن كان فيه التوافق والتكامل والمحيط المعماري أولوية يتم تحقيقها بالتأمل والتمعن والتدبر حتى يسكن المعمار الجديد في الجوار. فتكون الصفة التراكبية لهذا الجوار وسبل استيفاء المتطلبات الوظيفية والبيئية فراغيا شأن يرسمه الحس التكعيبي من خلال الإضافة والحذف. ويبدو واضحا أن العملية البنائية هنا لم تستند على وحدة المكعب الهندسي الصريح وتكراره، وإن اتفقت ‘وحدة التصميم والتنفيذ’ دون أن يفصلها ‘الرسم’ على معايير توارثت  الأجيال من البنائين على احترامها.

إن التكعيبية باتت تيار بنيوي للشكل وهو ما نجد صداه في عدد من أعمال رواد عمارة الحداثة في ميولهم التكعيبية الذين كان شغفهم بالشكل إستثنائي لا سيما في البحث عن هذا الحس التكعيبي في عمارة المدن التقليدية في الشمال الأفريقي.  إن هذا الشغف نجده بوضوح في أعمال عدد من أعمال التيار العقلاني للعمارة الإستعمارية في ليبيا أيضا. ضمن الدراسات حول أثر العمارة الكولونيالية الإيطالية في ليبيا، تشير فيتوريا كابريسي في ورقة بحثية إلى الجدل الذي كان دائرا خلال الفترة الفاشية الإيطالية حول الطراز الكولونيالي الملائم للمستعمرات، وإلى الإنتاج المعماري للمعماريين الإيطاليين، منذ منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي الذي كان أسلوبًا مستوحى من أشكال العمارة الليبية التقليدية فقط، مما يشير أن بإعادة تحميل “التكعيبية” المحلية تعتبر أكثر مساهمة معمارية أصيلة في المستعمرة. وفي هذا الصدد تستشهد تحت تساؤل هل التكعيبية المحلية تعني الحداثة؟ بما نشره [1] جيوفاني بيليغريني وتبنيه لمصطلح ‘التكعيبية’ في وصف تكوين العمارة المحلية الليبية، والذي استخدمه كسمة شكلية أسلوبية مرتبطة بمظهر المباني الخارجي. قام بيليغريني بتجزئة مصطلح التكعيبية إلى ثلاث تصنيفات أولها: ‘تكعيبية إبتدائية’ في وصف منزل محلي في طرابلس والثاني ‘تكعيبية كلاسيكية’ في وصف قاعدة مئذنة في انتقالها من قاعدة مكعبة إلى إسطوانة، والتصنيف الثالث ‘ تكعيبية متصلبة’ للأحجام المضطربة داخل نسيج المدينة القديمة العمراني.

الصور لجيوفاني بيليغريني

تبنت العمارة الإيطالية الوافدة إلى ليبيا أسلوب تعبيري معين وهو إعادة تفصيل العمارة المحلية التقليدية في ليبيا والاستلهام منها، الأمر الذي كانت معه هذه السمة التكعيبية كأكثر إسهام معماري متميز في المستعمرة. فالمحاولات المعمارية الكولونيالية التي اجتهدت في محاكاة الأسلوب العروبي أو المغاربي يصفها كارلو انريكو رافا في مقالة نشرت بمجلة ‘دوموس’ Domus عام 1931 بأنها مزيفة ووحشية، حيث أن هذه الطرز لا حضور لها في الأرض الليبية !

Giovanni Pellegrini من جانب آخر كان في ‘بيان عمارة المستعمرات’، الذي حرره عام 1936، وصف العمارة المحلية بأنها ذات جدران خالية من الفتحات ، ولكن عندما تكون الفتحات موجودة فهي صغيرة جدًا ، وفي هذه الحالة تكون محمية بواسطة حواجز ومشربيات، أو إذا كانت أكبر ، فهي محمية بأسوار سياج شبكي […] وبأن المدخل يتمتع بالارتفاع والديكور الرصين. لقد كان رافا مثل بيليغريني في الدعوة إلى دراسة وتأمل واعي ودقيق للعمارة المحلية الليبية، لأنها تحتوي على استجابات فعالة للبيئة المناخية القائمة، وأجد أن ذلك يشمل البيئة الثقافية السائدة أيضا.

إن المشهد السائد في عمارة العمران التقليدي هو التحرر من نظام الترتيب التعامدي الدقيق والذي نشهده في التقسيمات الإسكانية المتراصة في مواقع أخرى من المدينة، إلا أن منظومة الإنشاء وخواص مواد التنفيذ لها أثرها الملحوظ في تحديد نظام ترتيب أتفق عليه وكان بمثابة الضابط الأساسي للتكوين العمراني لها. إن القراءة المتمعنة في ‘الحس الهندسي’ و ‘أسس التصميم التكعيبي’ في عمائرنا المحلية واجبة وهي أيضا بمثابة أرض خصبة بأسرارها مما تحث المهتمين لسبر أغوارها وفك طلاسمها.

سيتم إستعراض هذه المحددات في الجزء الرابع.

[1] In Rassegna, 8, 1936, p.360, p.361.

التكعيبية البيضاء في ثنايا العمارة المحلية الليبية! الجزء الثاني ..

إن التكعيبية كتيار استند في حضوره فنيا على البحث والتحليل الفكري و الإنشائي، والمعماري والهندسي والكلاسيكي والمنطقي المحسوب[1]. فطبيعة مواضيع الأعمال التكعيبية التي أقتربت من مشاهد المباني والمستعملات و منتجات الحركة الصناعية، إضافة إلى الإختلاف البارز عن تقاليد إستخدام الورق والفحم والقماش والزيت، تحول الإستخدام إلى الورق المقوى والعلب ومسامير وكل ما يمكن توظيفه لإبراز تكوينات مجسمة وإثراء القيم اللونية بها، ولتبدو وكأنها في حضور مؤكد وملموس. لقد دفع بالتحول الكلي عن تقاليد الفنون التي دأب التشكيليون على المحافظة عليها إلى ولادة صيغ جديدة اعتمدت على البناء العلمي والطرق المنظمة، وبذلك تغيرت منظومة الجماليات الأوروبية الموروثة التي دامت لقرون.


في مطالعة قراءة إيفان مارجوليوس في كتابه ‘التكعيبية في العمارة والفنون التطبيقية’ حول نشأة التكعيبية كتيار، قبل إندلاع الحرب العالمية الأولى، ساد الوسط المعماري في ‘تشيكوسلوفاكيا’ وأثر محدود في فرنسا، والتي يجدها كظاهرة قوية و معزولة جغرافيا في آن واحد، تبلورت دون دعم أو إرساء جذور في أي مكان آخر في العالم . التيار التكعيبي التشيكسلوفاكي  برز كردة فعل  وتأثر الوسط المعماري آنذاك بالإتجاه التكعيبي في الفنون والذي سبق ظهوره بعدة سنوات. يشير أيضا إلى أن العمارة التكعيبية التشيكوسلوفاكية تيار ينشد التخلص من المادية الوضعية ‘positivist materialism’ التي صبغت أعمال القرن التاسع عشر وتقاليد الوظيفية التي أرسى أسسها جوتفريد سيمبر Gottfried Semper وأوتو فاقنر Otto Wagner[2]. لقد رفض التكعيبيون العقلانية والنفعية اللذين يستمدان جذورهما من نظريات عصر النهضة وبدأ الميل في أعمالهم إلى تكوينات أواخر فترات القوطية وأواخر الباروك.

يصف إنتاج الفترة بأن التكوينات المائلة والمخروطية والمقطوعة والأشكال الديناميكية بأنها أكثر قربا لتكوينات فترة الباروك من الفن الجديد، في الكتل الثقيلة ذات الهيئة الغامضة و واجهات اللون الواحد، والأعمال المعدنية والسطوح المتكسرة التي تلقي بظلالها، جميعها تضفي شعورا بالحس الديكوري الغزير في أعمال أواخر القرن السابع عشر.

إن البحث الدؤوب من قبل رواد التكعيبية عن الخواص الجمالية للفنون الفرعونية، وزخارف قصر كنوسوس في جزيرة كريت، وبياض ونقاء تكوين عمران المتوسط، والأقنعة الأفريقية وضوابط حروفيات وزخارف الشرق، كل ذلك  دفع بأن تتبوأ التكعيبية مكانتها العالمية. وقد يكون من المهم تسليط الضوء على مبدأ ‘فكرة الحل’ لمشكلة تصميم ما، الذي أتاح للوسط التشكيلي والمعماري طرح مضامين شمولية لم تغفل عن معالجة التفاصيل بتدقيق جلي. إن مساحة الفصل  بين فكرة التصميم وتنفيذها (بفعل اختبارها في رسومات) فسح المجال أمام ولادة جملة من النيات مثل الصيغ التعبيرية والدلالات، والوظيفة، والتكوين وأسس التصميم، والمنظومات الإنشائية ومواد التنفيذ، حافظت على حضورها لا سيما في عالم العمارة حتى يومنا هذا.


يمكن الوقوف عند مضمون ارتبط بشكل وثيق بتيار التكعيبية، وهو تعبير ‘البساطة‘. إن فكرة البساطة في أوضح تعريف لها هو أن يكون الحال غير مركب ومعقد، بالبساطة في التكعيبية تعنى النقاء، والوضوح  فكريا و تعبيريا. إن مفهوم البساطة كان السبيل للوصول إلى حلول تكوينات معمارية اكتسبت الثقة والتنوع واليقين لإعتمادها على العلاقة في عناصر التكوين. الإمتداد التجريدي الذي أعتمد على إستخدام الحس الهندسي والشكل واللون لنقل المضمون والتعبير، دفع بالعمارة إلى أن تختزل حضورها إلى الشكل الهندسي النقي وحضور بياضها المبين.

إن استحضار نموذج العمارة المحلية التي استوطنت بلادي ليبيا كمثال للدراسة والبحث في خصائصه الهندسية والتعبيرية والوظيف وعناصر التكوين التي توارثها الأجيال يستهدف مناقشة تعيين أهمية هذا الرصيد كمصدر إلهام التيار المعماري ساد ربوع الوطن خلال فترة الإحتلال الإيطالي، وتعثر خطواتنا المعاصرة في غياب إدراكنا قيمة ما نملك من هذا الرصيد.

إن نماذج العمارة المحلية في ليبيا والتي أشتركت في سمة البساطة ونقاء التكوينات على رغم من تنوع بيئة العمران من صحراوية أو جبلية أو ساحلية وتباين تقانات التنفيذ ومواد البناء المتوفرة محليا، يمكن استعراض أمثلة لها ضمن إطار بمحددات إبتدائية : السمات التجريدية’، ‘صيغ التشكيل‘، ‘الحس الهندسي’، ‘أسس التصميم التكعيبي’ أشتركت بشكل مؤثر في ناتج العمارة المتوارث.  إن الطرح لا يميل إلى المقارنة بل ينشد بالأساس البحث في الخواص المشتركة التي دفعت بالبساطة لأن تكون عنوانا حاضرا لها عبر الزمن.

سيتم إستعراض هذه المحددات في الجزء الثالث.

[1] -Robbins, D. (1988) Abbreviated Historiography of Cubism, Art Journal 47, pp. 277-283.

[2]The Four Elements of Architecture is a book by the German architect Gottfried Semper. Published in 1851, it is an attempt to explain the origins of architecture through the lens of anthropology. The book divides architecture into four distinct elements: the hearth, the roof, the enclosure and the mound.[1] The origins of each element can be found in the traditional crafts of ancient “barbarian:

(hearth -metallurgy, ceramic) (roof – carpentry) (enclosure – weaving) (mound – earthwork)

التكعيبية البيضاء في ثنايا العمارة المحلية الليبية! الجزء الأول ..

ورشة عمل تبحث في المحاولة المعمارية الليبية المعاصرة

دراسة تكوين عمران محلي – ككلة – ليبيا – مصطفى المزوغي

في متابعة اتجاهات الفكر المعماري المعاصر لم يكن بد من القراءة المتأملة لمجموع الفكر المعماري وتباين تياراته التي كانت مهدها جميعا التيار الحداثي الذي صاحب الثورة الصناعية في أوروبا وأمريكا والذي امتد صداه التعبيري للدول التي لم تختبر أثر بيئة العيش الصناعية كما هو الحال في ليبيا!

سطعت أسماء برامانتي وليوناردو وأنجلو وغيرهم كأسماء وضعت لبنات عصر النهضة في القرن الخامس عشر، والتاريخ أيضا يحفظ مكانة وأسماء عصر العالم الصناعي في القرن العشرين، مثل سيزان و بيكاسو وبراك وموندريان و جروبيوس. لقد ساهم التيار الطلائعي في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في تمهيد الدرب للحداثة كتيار  تعبيري يؤمن بحضور العلوم والتقنية، والعقلانية، والسرعة، وهدير الألات[1].  هذا التيار التعبيري تمت تجزئته إلى سلسلة من الحركات كالإنطباعية (التأثيرية)، والمستقبلية، والتكعيبية، والبنائية، والدادية، و السريالية و التعبيرية، إلا أن وحدها التكعيبية التي برزت بإتفاق المؤرخين كحجر الزاوية للحداثة.

“هل يمكن لي تكرار ما أخبرتك به يوما: عليك أن تعامل الطبيعة بتكوينات الإسطوانة والكرة والمخروط، فكل شئ بمنظور ملائم حيث يكون كل جانب لعنصر ما أو مسطح بإتجاه نحو نقطة مركزية. الخطوط في تواز والأفق لتظهر المدى في قاطع من الطبيعة، أو إن شئت إنبلاج المشهد الرباني الممتد أمام أعيننا. خطوط تتعامد على الأفق لترسم العمق” كان هذا مقطع من مراسلة باول سيزان (19/1/1839 -2/10/1906) الشهيرة إلى أيميل بيرنارد في الخامس عشر من أبريل عام 1904.  هذا الطرح بات بمثابة البيان الأول للتحرر من قيود المنظور وضوابط عصر النهضة والشروع في البحث عن رؤى تشكيلية ضمن مسار جديد.

Emile Bernard

البحث في مكنون الطبيعة الهندسي كان قد تلمس سيزان دروبها ضمن  مسارين أساسين كما وجدها رسامي التكعيبية لاحقا مثل بيكاسو وباراك وأخرون. المسار الأول هو السمات الهندسية في التكوينات الطبيعية التي بدت ظاهرة على الرغم من سعي سيزان في الوصول إلى حجوم من خلال المسطحات الملونة. المسار الثاني في أعمال سيزان هو التحرر من ضوابط المنظور الكلاسيكية والتي أرساها عصر النهضة، حتى أن كل عنصر في التكوين يبدو وكأن له فضاءه المستقل وزاوية منظور خاصة به. لقد شرع النقاد في تعزيز هذين المسارين بتسليط الضوء على تقنية التنفيذ في أعمال سيزان حيث كان إستخدامه لضربات الفرشاة ‘البناءة’ وتفاديه للخط لتعيين حدود عناصر التكوين بتوظيف درجات لونية مشبعة. تعارف النقاد على وصف محاولات سيزان لاحقا بأنها رائدة في تكوينات مجردة ثلاثية الأبعاد تبلورت باجتهاد مكثف في دراسة الكتل والفضاءات وترجمتها إلى مساحات لونية.



Paul Cézanne, Mont Sainte-Victoire, 1904, Philadelphia Museum of Art

لقد دأب المؤرخون في تدوين بدايات الحدث التكعيبي كأسلوب تعبيري، وتأريخه كنشأة تيار فكري، بالإشارة الثابتة إلى محتوى رسالة باول سيزان ومضمونها الفكري في البحث عن الخواص الهندسية الكامنة بمحيطنا الطبيعي كوسيلة تعبير. أيضا ساد الإتفاق على أن البداية الفعلية كانت قد أقترنت بـ ‘صالون الخريف’ الذي كان يقام في باريس سنويا، حين قدم جورج براك عام 1908 محاولاته التشكيلية المتأثرة بأطروحات باول سيزان حول الشكل الهندسي كجوهر بنية الطبيعة. الفنان العشريني اليافع جورج براك، اختار قضاء صيف 1908 في جنوب فرنسا بمنطقة لواستاك، حيث كانت محطة البحث لسيزان، والتي وصف تأثره بمنهجه “لقد كانت أكبر من حالة تأثر إنها بمثابة دعوة. سيزان كان أول من أنفصل عن المنظور الميكانيكي المنتظم”2].


تجدر الإشارة هنا إلى أن دافع التسمية لمسار هذا التيار التشكيلي بالتكعيبية، قد جاءت لاحقا ففي البدء واجهت أعمال سيزان رفضا من قبل النقاد حيث بدت لهم أنها نقلة متسرعة ومباشرة من الماضي إلى الحاضر، وتم وصفها بالوحشية والغير لبقة والطفولية والبدائية[3]. تغيرت وجهة نظر النقاد لاحقا بعد وفاة سيزان وتحولت معها الملامح السلبية إلى إيجابية حتى أن الأوصاف بدت مرادفات لمسميات رافقت الإتجاهات التي انبثقت من محاولات سيزان.

إن تسمية ‘التكعيبية’  أمرا ليس عادلا فالمحاولة في واقعها تدفعها الأفكار الطلائعية المتجددة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهو ما دأب عليه سيزان في أعماله من إعادة ترتيب المشهد الطبيعي، والذي نقله من مشاهد القرية بلوستاك وتحديدا البيئة العمرانية القائمة بها وهي تحديدا ما كان له الأثر البالغ في أعماله. أن ‘التكعيبية’ مرحلة تحول متكاملة وبتأثير ثقافي شامل لم تشهده الإنسانية منذ عصر النهضة إلا أن كما ورد على لسان المؤرخين أن التسمية فعليا أطلقت عندما تم رفض عملين من أعمال جورج براك الستة التي تم تقديمها إلى ‘صالون الخريف’ عام 1908،  والتي وصفها صارخا ماتيس بأنها ‘بل هي مجرد مكعبات صغيرة!’، في حين كتب عنها الناقد فوكسيل “السيد براك هو شاب جرئ … يقوم بتشكيل مجموعات صغيرة مشوهة ومبسطة بشكل مريع. إنه يحتقر الشكل فيختزل المشهد والأشكال والبيوت إلى  نماذج هندسية، وإلى مكعبات”[4].


(يمين)Georges Braque, Viaduct at L’Estaque, 1908, Centre Pompidou, Paris
(يسار)Georges Braque, Houses at L’Estaque, 1908, Museum of Fine Arts, Bern

إنه في إطار هدف طرح هذه الورقة سيتحول النقاش هنا إلى صدى هذا الطرح التكعيبي معماريا، الذي كان أيضا ضمن التيارات الفكرية الطلائعية في عصر الآلة من بدايات القرن العشرين.  تجذرت الحركة التكعيبية تشكيليا بريادة براك وبيكاسو في تعاون لصيق في الفترة ما بين 1908 والحرب العالمية الأولى في 1914 ضمن زيارات متبادلة للمراسم وتبادل الأفكار والتنافس الخلاق حتى أن عدد من الأعمال تعذر على الخبراء نسبها إلى أي منهما، لقد وجد براك القيمة في التكعيبية وأجتهد بيكاسو فعليا في استغلال كل الفرص الكامنة بها، والذي وصف سيزان بأنه أب الجميع.

قام المؤرخون بتصنيف تبلور التيار التكعيبي تشكيليا  إلى مراحل ثلاث؛ أولها (1907-1909) والتي إتسمت بالمحاولة في إختزال الطبيعة إلى مساحات هندسية بسيطة وبرزت خلالها المحاولات التشكيلية لبول سيزان. التكعيبية التحليلية (1910- 1912) صنفت كمرحلة ثانية كان الإجتهاد فيها تفكيك التكوين إلى مكعبات ليتم تجميعها باستخدام تدرجات اللون الواحد، وشكلت الفترة (1912-1914) المرحلة الثالثة والتي سادها الفعل التكعيبي التركيبي تفاديا للطرح التحليلي المبالغ.

الجزء الثاني من حلقة النقاش : التكعيبية كتيار فكري معماري


[1] – Carol Donnell-Kotrozo, ‘Cezanne, Cubism, and the Destination Theory of Style’, The Journal of Aesthetic Education, Vol. 13, No. 4 (Oct., 1979), pp. 93-108  (P.93)

[2] – Kuspit, D. (1989) Cubist Hypochondria on The Case of Picasso and Braque, Art Forum 28, pp. 112-116.

[3] – As quoted in William Rubin, Picasso and Braque: Pioneering Cubism, New York: The Museum of Modern Art, 1989, p.353.

[4] – Thackara J. (1988) Design After Modernism. Thames and Hudson, Londan.

أقلام زها حديد!

مقومات التفوق المعماري

1
تصوير : مصطفى المزوغي

كان يوم ضبابي بارد جرتني فيه قدماي عبر حدائق كينجستون بأشجارها العتيقة العارية من أوراقها إلى قاعة عرض ” سيربنتاين ساكلر جاليري”  وهي تختتم معرض إستثنائي لرسومات ولوحات زها حديد خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي . تابعت كغيري أعمال زها حديد منذ إنطلاقتها وتيار التفكيكية بل حاولت جاهدا استيعاب تلك الفترة وارهاصاتها والأعمال التي تناولها الإعلام المعماري، إلا أن الحماس للمتابعة بدا يخبو بتحول رواد التفكيكية التدريجي إلي مسار بدا لنا أكثر وضوحا وإن لازال متشبتا بنبذ الوظيفية والانجذاب نحو التكوين الظاهري.

 حرصت على الوقوف أمام لوحة تقديم المعرض وقرأتها. تقول زها في مقدمتها: “انا كنت على الدوام شغوفة بفكر الجزئيات والتجريد والإنفجارات التي سادت أفكار التفكيكية في التكرار والإنتاج المكثف. إلا أن بداية أعمالي المعمارية أرتبطت بالتيار الطلائعي الروسي وتحديدا أعمال كازامير ميلافيتش، فلقد كان له تأثير كبير كنموذج لتيار طلائعي حديث يتقاطع فيه الفن والتصميم”

زها حديد المولودة في بغداد عام 1950 توفيت عام 2016، كانت قد تلقت تعليمها المعماري بمدرسة الجمعية المعمارية  حين أنتقلت إلى لندن عام 1972، لتؤسس مكتب (زها حديد معماريون) في العام 1979 الذي شهد إنطلاقاتها المهنية حتى تاريخ وفاتها.

 تشير أيضا لوحة التقديم للمعرض أن زها حديد كانت تهتم كثيرا في أعمالها الوسيط بين العمارة وتنسيق المواقع والجيولوجيا، حيث يقوم مكتبها بتحقيق التكامل المنشود من خلال توظيف تقنيات خلاقة والتي عادة تؤتي ثمارها بتكوينات ديناميكية غير متوقعة. المعرض بإيجاز يقدم بيان زها حديد حول العالم المثالي بالنسبة لها، ويعرض كل أفكارها التي تشمل ترتيب الفضاء المعماري وتفسيرها الشخصي للواقع.

 إذن مالذي يمكن إضافته من تقديم؟

التجوال في المعرض بالنسبة لمعماري يمنح النفس راحة غامرة، ويستفز الفكر بعديد التساؤلات، قد يتطلب الأمر تكرار المشاهدة لعدد من اللوحات، وقد يسعى المرء لمحاولة الربط بين الرسومات وتواريخها ومواقع مشاريعها، فهي لغة خطاب قائمة بذاتها فما كتب كعناوين للوح والرسومات المعروضة لم يتجاوز التاريخ والمكان. إن خصائص رسومات زها حديد السريعة الحدسية (الإسكتشات) جديرة بالبحث، فهي مثال متكامل لتكامل العلاقة بين ناتج التصميم ومسار الرسم اليدوي السريع، فضلا عن كونها وسيلة مؤهلة لقراءة قدرات زها حديد الإسنثنائية في التصميم، إضافة إلى أثر القلم المستخدم !

 تعارف المصممين على أن مساحة الإبتكار تنحصر دائما في حدود التواصل البصري والناتج الخطي أو اللوني، فإكتشاف المعلومات وإختبارها حول الفكرة يكمن في التواصل وما تخطه الأقلام. فالرسم وسيط مرتبط بالمصمم، فهو لغة التعبير ووسيلة لتقديم الرؤية، والعمل المعماري ليس بإستثناء فهو يولد على سطح ورقة، ووسيطه الرسم الذي يجعل من الرؤية حالة مرئية والفكرة قادرة على التواصل.

زها حديد في رسومات بدت على وعي إستثنائي بقوة هذا الوسيط فالتحمت معه وصدقت في تواصلها معه حتى أن المرء يجد جميع ما أشتمله المعرض من رسومات سريعة ولوحات تنبض إخلاص وتفاني. الرسم بالنسبة لزها حديد لم يكن يوما وسيلة بل هو وسيلة وغاية في آن واحد. إن كم الإتقان الذي تشهد به اللوحات، التي تنوعت في وسائطها من حبر إلى اكريليك ومن ورق إلى قماش، جعل من اللوحات قيمة بذاتها لها خطابها المستقل الذي كثيرا كان لا ينشد أن يتبلور إلى كيان واقعي مرئي بل يكتفي بكونه صوت زها حديد.

هنا استوقفني السؤال: “هل نملك ذات القدرة على التواصل مع رسوماتنا اليوم ؟” إجابتي ستكون بنعم فهناك المئات من الوسط المعماري في بلادنا يملك باقتدار هذه السمات. ليبرز سؤال آخر: “لماذا إذن ليس لدينا العديد من زها حديد ؟” إن حجم الثقل الفكري والقدرة على إدراك المحيط برؤية خاصة والملكة على رسم إنعكاسات الإنطباع والإخلاص في التعبير، جميعها قدرات يجب أن تتوافر. ليبرز أيضا سؤال متجدد: “وكيف السبيل لتحقيق ذلك ؟” وحدها البيئة الراعية تكفل ذلك، فالتعليم المعماري الذي حظت به زها حديد في مؤسسة خلاقة، والحماية التي يكفلها الوسط المهني، والبيئة الثقافية المسؤولة، والنضج المجتمعي والمؤسساتي، جميعها عملت على مر السنين في صقل القدرة الخاصة لزها حديد، وهي الأخرى لم تألوا جهدا في الكفاح والعمل الدؤوب والصبر فلم يكن دربها يسيرا كما يبدو.

حان موعد مغادرتي للمعرض والمحاولة في لم شتات انطباعي يائسة، الفكر يتلاطم ليس في شأن زها حديد، بل في مقومات تفوقها!
حتما تضيق العبارة في الإجابة ولكن استوقفني أين يسكن قلم زها حديد! فهو دائما بين دفتي كتابها وفي ثنايا أوراقه خطوطا وقلما .
المستقبل يتم صنعه بأقلامنا
 سيربنتاين ساكلر جاليري (Serpentine Sackler Gallery)
الجمعية المعمارية (Architectural Association AA)

العمارة الإيطالية الكولونيالية في طرابلس … هل كانت عنوان لصراع ثقافي؟ (جزء 1)

العمارة الايطالية الكولونيالية في طرابلس … هل هي عنوان لصراع بين ثقافة سائدة بالمكان وأخرى وافدة؟

يأتي العنوان حصيلة حدثين؛ أولهما قراءة لما يتبادل من أراء على ‘الفيسبوك الليبي’ الذي ساد المشهد الثقافي باقتدار خلال السبع سنوات بل أصبح يرسم المكنون الثقافي لرواده ضمن واقع إفتراضي، لذا بدا أنه من الوسائل التي تتيح مؤشرات في استقراء الرأي العام. الحدث الثاني كان في وقفة على تساؤل صديقة باحثة من جيلي عندما واجهتها إبنتها بسؤال واقعي تعذر عليها الإجابة عنه

بالعقلانية المنشودة، فسقطت إجابتها في غياهب العاطفة، فتوقف الحوار بينهما.

ما الذي إذن يحدث على صفحات الفيسبوك ‘الليبي’؟ وماذا كان سؤال تلك الفتاة والموجه إلى جيلنا؟

الأهم بالطبع هل نملك حقا إجابة شافية للسؤال والمتربع بعجرفة كعنوان لهذا الحديث؟ وهل تكون محاولة الإجابة عنه بمعالجة إشكالية هوية العمارة لدينا؟ أم أنه علينا أولا تعريف الملامح المنشودة لكل من العمارة والعمران في بلادنا ؟

يسود الفيسبوك ‘الليبي’ موجات صراع ديني، وسياسي، وايديولوجي، وإجتماعي ، وأكاديمي ، وثقافي، وغيره خلال السبع سنوات الماضية، حتى بات أرضية إفتراضية يرتادها الجميع للإشتراك في أو للإطلاع على ما ينشر من ‘موجات صراع تعبيري’ قد يتفق عليه وقد يكون إحتدام الخلاف، إلا أنني من الذين يشعرون أنه لا مكان للحوار على هذه الصفحات بل هو صراخ يحتدم إلى السباب والشتم والتنابز فالكتابات والتعليقات كثيرا ما تأخذ منحى بعيدا عن الموضوعية فتنتهي سريعا إلى لا نتيجة بل هى أقرب لأن تكون استراحة لازمة من إجهاد تعبيري لا يرجى منه طائل!

هذه نماذج لتعليقات في ذات الموضوع، تم إختيارها بشكل عشوائي وعفوي ودون عناية، ولا شك أن تمت قراءة بعضها، وهي أيضا تقع في خانة الصراع حول استحسان العمارة الايطالية في طرابلس، والتي تجاوزت الصفحات التي تعرض صورها العشرات، وكراهيتها بل ويصل التعبير إلى إهانة صاحب الاستحسان ! أنتقيها بدون أسماء ودون تحريف في تعليق على صور قديمة لطرابلس الكولونيالية:

ـ “أيام الزمن الجميل لما كان فيها ٧٠ الف إيطالي امخليينها قطعة من أوروبا وقبل ما يهدو عليها العرب من الكامبوات والبراريك امتاعهم”

ـ يأتي الرد: ” وأنت يا …عاجب لما ايكونوا فيها الطليان يا مطلين ؟؟؟؟؟؟ تقدر تمشيلهم يا ولد يا طلياني يا قليل الوطنية والانتماء ….. أكيد أجدودك .. كانو خونة وعملاء إيحاربو معاهم …. أما نماذج … يستحي من أشكالهم الشيطان الرجيم

ـ تعليق أخر “عندما أرى الصور القديمة لطرابلس بعضها تذكرني بطفولتي وبعضها تعرفني بفترة طفولة والدي أو جدي (الله يرحمهما) وهذا أكثر شئ يشدني لصور طرابلس القديمة”.

ـ “خسارة ما نتفكراش”ـ “للأسف سمعت بيه من والدي رحمة الله عليه”

w

من جانب أخر يمكن إستعراض الحوار المشار اليه بين الأم وإبنتها كحوار أجيال هو بلاشك نموذج يسود واقعنا الاجتماعي في مجالات شتى نصفها أحيانا بالفجوة الحضارية وأخرى عالمين مختلفين، إلا أنها حال واقعي نكتشفت معه غياب قيمة صور الإختبار الحقيقي للمكان والفضاء في المدينة لدى الأجيال التي لم تولد حينها وما تغير الأمكنة والفضاءات إلا قيمة أخرى لدرجات إختبار المعايشة الحقيقية، وهنا علينا إدراك إن إستحسان الصور الفوتوغرافية لطرابلس الستينيات من الجميع لا يعني أنه يحمل ذات القيمة لأن الأم ولدت وعاشت في ذلك المكان والإبنة حين ولدت كان ذلك المكان قد أختفت ملامحه إن لم تغيب كليا، فتولدت معه درجة إختبار مختلفة.. الأم تعيش صراع قيمتين من اختبار المعايشة والإبنة تعيش درجة إختبار واحدة.

فيما يلي الحوار (بتصرف):

ق.) عندي استفسار وأنشد رأيك في الموضوع: تناقشت في أول السنة مع أبنتي وبصراحة لم أجد عندي رد كافي أو معرفة بالموضوع، أثارت موضوع أو نظرية ‘Transculturation’ فيما يخص العمارة العقلانية أو الايطالية عموما في ليبيا. تساؤلاتها حول الموضوع كانت عديدة. ونصحتني بقراءة كتاب Margret Pratt، أحببت أن أسمع رأيك بالخصوص، الكتاب موجود عندي ولكن لم أنتهي من قراءته.

م.) إلمامي بفكر “التبادل الثقافي” محدود، وإن كنت أجد صداه في أعمال بعض المعماريين الايطاليين خلال الفترة الكولونيالية، لكني أعترف بأن قرأتي لها كانت كالمرور الكريم دون عمق يذكر. تألفنا على تعبيرات مثل ‘التبادل الثقافي’ و’الغربة الثقافية’ و’الصراع الثقافي’ و’الحوار الثقافي’ كفرد في مجتمع متلقي دون أدنى محاولة مني للبحث. بلا شك الموضوع مهم معرفيا ويتطلب سعة الاطلاع، وقد يكون من المجدي العمل على استحضار أمثلة معمارية تعكس مستوى التفاعل الثقافي المتبادل أو أنها فقط أمثلة ‘مدجنة’. لا أجزم حاليا بالقدرة على الكتابة حول هذا الموضوع ولكني سأحاول حال تبلور فكرة وتكامل عناصر النص.

ق.) لا أخفي عليك أن ابنتي زرعت الشك في نفسي بتساؤلها :’ لماذا هذا الاهتمام المبالغ بطرابلس وعمارتها الكولونيالية؟’، خصوصا أنها لم تكن يوما لليبيين ولم تكرس لهم؟ حاولت أن أشرح لها: ‘أن هذا الفضاء الذي ولدت به، وربطت الموضوع بالتبادل الثقافي’. إلا أنها أثرت الانسحاب من النقاش لأن رؤيتي والشحنة العاطفية بحديثي واضحة، ووجهة نظرها كون لا تربطها نفس الصلة بطرابلس يجعل من الحوار أكثر صعوبة ودون نتيجة .

م.) لست مستغربا، فمنذ زمن تترأى لي عنوان خاطرة ‘لماذا أو هل يمقت الليبيون العمارة الإيطالية الكولونيالية في بلادهم؟’ ويجب أن نتجاوز المنهج الوصفي التاريخي لأن تكون قراءتنا كمحاولة للإجابة عن التساؤل تحليلية وموضوعية. أيضا العمارة الايطالية الكولونيالية في طرابلس تتطلب الاقتراب منها واختبار فراغاتها وسطوح واجهاتها وهيئتها وتفاصيلها، تتطلب منا أن نتأمل في رسوماتها وزياراتها مرارا وتكرارا حتى تأنس النفس وتستكين فتبادلنا الإستئناس وتفصح عن مكنونها وتخبرنا إسمها وكنيتها الحقيقية حتى نمحي من قاموسنا ما أطلقناه جزافا عليها من صفات ونعوت. الأمر أيضا يتطلب حضور ذاكرة غزيرة بصور ومشاهد العمران المحلي والعربي والافريقي والمتوسطي حتى تكون المقارنة والمقاربة. علينا عبء تاريخي بدايته الترجمة.

ترأى لي بعد التمعن في الحوار والتعليقات، أنه قد يكون من المجدي عرض الموضوع للنقاش، بمعنى أن ما يمكن إستعراضه الأن ليس بإضافة معرفية إستثنائية بالقدر لأن تكون دعوة في المشاركة حول التساؤل المعرفي لظاهرة باتت تستشري وهو ما يمكن تسميته بـ التحول العمراني، فما تعارف على تسميته بالعمارة الإيطالية من مبان حكومية، أو ترويحية أو سكنية جميعها طالها العجز والإهمال والتخريب بل وحتى الهدم. والسؤال الذي أبى إلا وأن يطرح نفسه كتساؤل بشكل متكرر وإستفزازي خلال قراءاتي والإعداد لهذا العرض هو ‘ ما الذي يمكن أن يكون البديل لهذا العمران؟’

هنا أستعرض حال بعض المباني الإدارية والترويحية والسكنية كما وضعها الإيطاليون كمشهد تمهيدي للبحث في زمن سبق حدوثها… زمن شاهد على أدوار عدة عوامل تباين تأثيرها ولكن في تجاذبها وتوافقها خلصت إلى هذه المدينة طرابلس الحديثة. إنها عوامل يمكن تجميعها في مجموعات طبقا لأدوارها وحضور تأثيرها الفكري الحضاري في تبلور شكل المدينة. فكان الإجتهاد في حصرها ضمن الآتي: القوى العسكرية، والقوى السياسية التخطيطية، والقوى المالية، والقوى المعمارية والأثارية. كما أن من المهم ادراك واقع تفاعل هذه القوى لتتوحد أحيانا في الأهداف حتى أن تباينها يختفى كليا، وتتنافر أحيانا أخرى في السبل فتبرز بكياناتها مستقلة.

البداية تفرض أيضا السؤال: “إلى أي مدى يمكن الرجوع إلى الخلف؟”، وما الجدوى في ذلك؟ وهل حقا أنه “من الضروري مناقشة الماضي حتى يكون من الممكن إدراك ما يجري حاليا؟

الإجابة المباشرة ستكون نعم طالما كان العمران وهويته المعمارية مرآة عاكسة للثقافة السائدة، فمن المهم العودة للماضي وتدارس مقوماته الحضارية (الطبيعية والمادية) كمحددات كان لها الدور المؤثر في العمران .

هنا يمكن إستعراض ملامح من زمن غابر كان لها دورا مؤثرا في تشكيل كيان طرابلس المادي الحديث، وهذه الملامح يتباين تأثيرها كمحددات لشكل المدينة من جهة ومدى تفاعل الليبيين معها من جهة أخرى. سرد موجز ومختصر بدايته مع مكان وزمان وسكان كان لهم في ثلاثية الدين والعرض والأرض مقومات الوجود والهوية للإنسان الليبي، وكان أن أدرك الاستعمار الايطالي هذه المكونات فرصد لكل منها خطاب وأسلوب إستعماري مناسب.

…. وللموضوع بقية